
زيارة “اللا ضمانات” تترك لبنان في مرحلة استيعاب الصدمة
في توقيتٍ بالغ الحساسية، وصل الموفد الأميركي توم بارّاك إلى بيروت للمرة الثالثة، في محطة تُعدّ الأكثر تعقيدًا بين زياراته السابقة، بعدما دخلت المعادلة اللبنانية – الإسرائيلية مرحلة دقيقة لا تحتمل التأجيل ولا الغموض. فالملف اللبناني الذي حمَّله بارّاك في الزيارتين السابقتين وفيه إشارات دعم وضغوط مستترة، عاد اليوم إلى الواجهة تحت عنوان “لا ضمانات للبنان”؛ لا من إسرائيل ولا من واشنطن، من ناحية التزام الأولى بالجزء المتعلق بها من أي اتفاق، وذلك بعد عدم التزامها بأي بند من بنود اتفاق وقف الأعمال العدائية في 27 تشرين الثاني 2024. وهو الأمر الذي يُثقل كاهل العهد والحكومة، ومعهما رئاسة مجلس النواب، بمسؤولية الحفاظ على الاستقرار ومنع الانفجار، بالحد الأدنى.
مسار من التصعيد والحذر
زيارة بارّاك الأولى إلى لبنان أتت في مرحلة تمهيدية، حمل فيها إشارات انفتاح، وشجّع خلالها على “خطوة مقابل خطوة” في ما خصّ سلاح حزب الله، وربطها بسياق التفاهمات الإقليمية. أمّا في زيارته الثانية، جاء أكثر حسمًا، عارضًا أفكارًا مكتوبة حملت عنوان “ورقة بارّاك”، قدّمها إلى الرؤساء الثلاثة، وجاءت بمنزلة خريطة طريق مشروطة ومفتوحة على الالتزام أو التصعيد.
أمّا في الزيارة الثالثة اليوم، يبدو أن هناك مناخاً مختلفاً كليًا: تعقيد ميداني في جنوب لبنان، تدهور داخلي، وأخطر من ذلك، تغيّر في نبرة بارّاك نفسه الذي أبلغ رئيس الجمهورية جوزاف عون أنّه “لا يستطيع أن يمنح لبنان ضمانات بالتزام إسرائيل بالجزء المتعلق بها من الاتفاق”، وهو الأمر الذي يفتح الباب أمام مرحلة جديدة عنوانها: “إدارة ما تبقّى، لا تسوية ما كان”، وفق ما أوضحت مصادر مطّلعة لـ”المدن”.
حيال هذا الواقع، ووفق معلومات خاصة بـ”المدن”، فإن الرئيس جوزاف عون قرّر عدم الركون إلى الانتظار، بل إطلاق مسارين متوازيين:
خارجيًا: سيجري الرئيس عون اتصالات مع الدول الصديقة والشقيقة لحثّها على الضغط على إسرائيل للالتزام بالضمانات، منعًا لانفجار المواجهة، وكي لا يُترك لبنان وحيدًا في مواجهة حسابات الميدان الإقليمي والدولي.
داخليًا: سيتحرّك الرئيس عون على خطّين متوازيين:
-
أمنيًا: عبر تكثيف التنسيق مع الجهات المعنية لتجنيب البلد أية تطوّرات ميدانية قد تعطي إسرائيل ذريعة لتوسيع هجماتها.
-
سياسيًا: عبر السعي إلى توحيد الخطاب الوطني، بحيث يكون خطابًا عقلانيًا وهادئًا يساعد على تمرير هذه المرحلة الدقيقة ريثما تتضح نتائج الاتصالات الخارجية.
وفي السياق نفسه، لن يكون الرئيس عون وحيدًا في هذه المساعي، بل سيتحرّك كلّ من رئيس الحكومة نواف سلام ورئيس مجلس النواب نبيه بري. إذ ثمّة توافق على ضرورة امتصاص الصدمة لا الانجرار إلى معركة من دون أفق.
بارّاك لعون: لا ضمانات… لكن لا حرب أيضًا
مع أن موقفه يبدو واضحاً بعدم طلب إدارته أية ضمانات من إسرائيل، علمت “المدن” أنّ الموفد الأميركي أبلغ رئيس الجمهورية خلال اجتماع بعبدا أنّه “سيبذل جهده” مع إسرائيل ومع الجهات المؤثّرة. ووفق ما نقلت مصادر قريبة من الاجتماع، فقد سُئل بارّاك بصراحة: “ما البديل عن الضمانات؟ هل ستشنّ إسرائيل حربًا؟” فجاء جوابه حاسمًا: “الولايات المتحدة لن تسمح بوقوع الحرب، لكن يجب احترام المهل والجدول الزمني لتسليم السلاح”.
إلّا أنّ هذه النقطة بالذات تصطدم بعقدة أساسية اسمها حزب الله، الذي يربط أي نقاش في مسألة السلاح بالسياق الإقليمي، لا بالتفاهمات المحلية فقط.
في قراءة للموقف، تدرك بعبدا تمامًا أنّ الحزب لم يتقدّم خطوة تجاه إعطاء أية إشارة إيجابية على الطريق، أقلّه، البحث في تسليم سلاحه، أو دعم الرئيس عون في مهمته فحسب، إنما أضاف إلى قائمة ذرائعه مُسوِّغاً جديدًا تمثّلَ في أحداث محافظة السويداء السورية، والخشية من تكرار المشهد نفسه انطلاقًا من الحدود السورية – اللبنانية.
هذه الأحداث عزّزت، وفق المعنيين، مخاوف الحزب من انفلات الحدود الشرقية، وتحديدًا في البقاع حيث الثقل السكاني الشيعي، وهو الأمر الذي يجعل مسألة تسليم السلاح بالنسبة إليه “خيانة” لأمن الطائفة، وفق مقاربته.
وفي ظل هذا الواقع، يُدرك الرئيس عون أن قدرة لبنان على التأثير في الداخل السوري محدودة للغاية، وبالتالي فإن أقصى ما يمكن فعله هو تحصين الساحة اللبنانية، سياسيًا وأمنيًا، والعمل على ضبط الحدود ومنع استغلالها من أي طرف.
لا تواصل مباشر
في هذا السياق، لن يستثني رئيس الجمهورية أي طرف لبناني من دائرة التواصل، بما في ذلك حزب الله، لكن ليس عبر لقاء مباشر، بل عبر مكلَّفين من قبله لهذا الغرض. وستكون مهمة هؤلاء إبلاغ الحزب بخطورة استمرار الوضع على ما هو عليه، وبأهمية الالتزام بمبدأ “خطوة مقابل خطوة”، وعدم ترك المهل مفتوحة، لأن الفراغ في التزامات الأطراف قد يفضي إلى حرب موسعة أو إلى ضغوط غير مسبوقة.
وفي العودة إلى لقاء بارّاك ـ عون في بعبدا، سُئل بارّاك عمّا إذا كان سيعود إلى بيروت في زيارة رابعة، فكان جوابه معلّقًا: لا تأكيد ولا نفي. الأمر الذي عكس حجم التردّد والتعقيد الذي يلفّ المرحلة المقبلة، في ظل غياب أية تطمينات أو أفق واضح للمسار التفاوضي.
هكذا إذًا، يدخل لبنان محطة دقيقة جدًا: لا ضوء أحمر لتل أبيب، ولا ضمانات من واشنطن، ولا قدرة لبنانية على فرض التزامات على حزب الله، في وقت تسابق فيه الأحداث كل الحسابات، من الجنوب إلى الشرق. زيارة بارّاك الثالثة قد لا تكون الأخيرة، وإن لم يُعلن عن زيارة رابعة، لكنها بالتأكيد الأثقل سياسيًا. وهي إشارة إلى أنّ ما قبلها ليس كما بعدها، وأنّ لبنان بات أمام لحظة الحقيقة: إمّا تثبيت التسويات المتعثّرة، أو الانزلاق إلى مسار مفتوح لا أحد يعرف مداه. والعين على ما بعد مغادرة الموفد الأميركي لبنان، وما ينتظر الواقع اللبناني وسط استمرار تفلّت إسرائيل من أي ضوابط من جهة، والنيران المشتعلة في سوريا والمرشّحة للانتقال من منطقة إلى أخرى وصولًا إلى الحدود مع لبنان من جهة أخرى.