
رعب وتنكيل وتهمة جديدة لنساء سوريا: إغواء الأمن العام!
الساعة العاشرة ليلاً بتوقيت دمشق. لم تمضِ سوى ستة أشهر على نشوة السوريين بسقوط النظام في مناطقهم، وعلى خطاب النصر الذي صدح في الساحات…
في حي باب شرقي الدمشقي العريق، كانت الموسيقى تتصاعد من مقهى أبو الزلف، حيث يظل المزاج العام محتفلاً بزمن جديد طال انتظاره، زمن الأمل والتحرر.
لكنّ وهج اللحظة سرعان ما تبدّد حين اقتحم المكان شابان في السابعة عشرة من العمر، بلحى طويلة وعتاد حربي وذخيرة حيّة، لينقلب المشهد رأساً على عقب.
يرتفع صوت أحدهما فوق صوت الموسيقى: “طفّوا الموسيقى ولك… ما بتعرفوا إنو الموسيقى حرام؟” تخيّم حالة من الذهول، تُخفض الموسيقى سريعاً، وتبدأ جلسة استجواب ارتجالية للزبائن: من هذه؟ وما صلتها بهذا الرجل؟ ولماذا يجلسان سوياً؟
في محاولة لإنقاذ الموقف، سارعت براديس، مديرة المقهى، إلى التدخل. لكن أحد العناصر وجّه لها أمراً مباشراً بمغادرة المكان فوراً.
لم تكن السيدة الوحيدة
ولم يكن الطرد نهاية المطاف؛ إذ تحوّلت الحادثة، بحسب تصريحها لـ”المدن” إلى ملاحقة طالتها حتى باب منزلها في حي باب توما، حيث حاول العناصر اقتيادها ليلاً بتهمة “إغواء عناصر الأمن العام”، رغم ارتدائها لملابس محتشمة.
ما حدث استدعى تدخل عدد من شباب الحي لإنقاذها من نوبة رعب دفعتها، في الليلة نفسها، إلى الفرار نحو بيروت.
ولم تكن براديس الوحيدة في مواجهة هذا النوع من الترهيب؛ إذ تعرّضت مواطنتها سوسن، التي كانت من روّاد المطعم في تلك الليلة، لموقف مشابه، فقط لأنها ارتدت سترة كشفت عن جزء بسيط من منطقة الصدر. أمام هذا المشهد المتكرّر، اتخذتا معًا قرار الفرار، في رحلة كلّفتهما أكثر من 700 دولار.
لكنّ الرعب الذي دفعهما إلى المغادرة لم يكن سوى بداية لسلسلة من المخاوف الجديدة، إذ تلاحق الفارّين تحديات يومية: البحث عن عمل، تأمين إقامة قانونية، وتوفير الحد الأدنى من مقوّمات الحياة.
ويعيد هذا الواقع إلى الأذهان صورة السوريين الذين نزحوا إلى بيروت مع بدايات الثورة؛ حين كان شارع الحمرا يعجّ بالوجوه السورية، قبل أن تتجه أعداد كبيرة منهم لاحقًا إلى اللجوء في أوروبا، في رحلة بحث مستمرة عن الأمان والكرامة.
اليوم، في أحد مقاهي شارع الحمرا، وجدت براديس عملاً ومسكناً يمدّها ببعض الاستقرار وسط واقع لا يزال هشاً. لكن المفاجأة لم تكن في حصولها على فرصة جديدة؛ بل في ملامح الوجوه التي تصادفها خلال تنقّلها اليومي في الشارع، وجوه اعتادت رؤيتها في دمشق، حين كانت تعمل في المقاهي ومحلات السهر هناك.
بعد أحداث السويداء
فبعض هؤلاء كانوا من أصحاب تلك المحلات، ممّن اضطروا لمغادرتها تحت ضغط التضييق المتصاعد ومنع تقديم المشروبات الكحولية؛ ليجمعهم القدر من جديد في بيروت، ولكن ضمن سياق مختلف تمامًا،لا يشبه الأمس إلا بالحنين.
مع اندلاع أحداث السويداء، وجدت الفتاة ــالتي تنحدر من هناك بحسب بيانات هويتهاــ نفسها محاطة بالخوف على عائلتها وأصدقائها، في ظل تطورات أمنية تنذر بالخطر.
وازداد قلقها حين علمت أن منزل والدتها وشقيقتها قد تعرّض للحصار، ما دفعهما إلى غلي الماء استعداداً للدفاع عن نفسيهما، وسط أنباء مروّعة عن إعدامات ميدانية طالت عدداً من أقارب أصدقائها على يد فصائل أو عشائر موالية للسلطة.
لكنّ مشاعر التوتر لم تبقَ محصورة في الخوف، إذ سرعان ما انعكست على حياتها اليومية؛ فطُردت من عملها في مشهد يُجسّد طائفية مقيتة باتت تنخر في جسد المجتمع السوري، وتتمدّد أحياناً إلى بعض البيئات اللبنانية، فتغدو النجاة من الموت مجرد بداية لسلسلة من الإقصاء والعزلة.
في حديثها لـ”المدن”، تقول الفتاة: “كنتُ من أوائل من احتفلوا بسقوط الأسد. واليوم، أجد نفسي مضطرة للعيش كنازحة وضحية… وأفكّر في طلب اللجوء إلى ألمانيا”.
بينما تنشغل سوسن، الحاصلة على إجازة في اللغة الإنكليزية والتي كانت تعمل سابقًا في أحد المصارف، بعمل جديد كسِمسارة لصالح مكتب عقاري ــمقابل عمولة بسيطة تساعدها على تأمين قوت يومهاــ تسعى في الوقت نفسه إلى تقديم يد العون لعدد من النساء السوريات، في محاولة لمساعدتهن على العثور على مساكن منخفضة التكلفة، بعدما أجبرتهن الظروف ذاتها على مغادرة البلاد.
انتهاكات صارخة للنساء
ويكتسب عملها بُعداً إنسانياً إضافياً في ظل تقارير حقوقية تشير إلى تصاعد حالات اختطاف الفتيات؛ إذ أفاد المرصد السوري لحقوق الإنسان بوقوع بعض تلك الحوادث في مدينة إدلب، ضمن سياقات تُنسب إلى جماعات مسلّحة محلية، ما يفاقم المخاوف الأمنية ويجعل مهمة الاستقرار أكثر تعقيداً بالنسبة للسوريات الفارّات من مناطق النزاع.
انتهاك صارخ توثّقه العديد من روايات النساء السوريات، ومن بينهن زينة شهلا، المعتقلة السابقة لدى نظام الأسد بسبب مشاركتها في اعتصام سلمي أمام البرلمان في دمشق، رفع شعارًا بسيطًا لكنه بالغ الرمزية: “حرمة الدم السوري على السوري”.
ذلك الاعتصام، الذي فُضّ بالقوة وبالهراوات، تحوّل إلى مواجهة مباشرة مع دولة لا تتسامح حتى مع أبسط أشكال الاعتراض، ولو جاء على هيئة صوت نسائي أعزل.
ووفقًا لروايات شهود عيان، كانت المجموعة التي هاجمت المحتجّين أشبه بميليشيا خارجة عن القانون، لكنها تعمل تحت مظلة السلطة؛ هدفها كسر عظام النساء باسم الدولة، لا إسكات الاحتجاج فحسب.
لحظة العنف تلك اختزلت الشعور العام بالخذلان، وأعادت الجميع إلى نقطة البداية: نحن، والوطن.
وإذا كانت التهم الجاهزة مثل “النيل من هيبة الدولة”، “وهن عزيمة الأمة”، و”خلخلة الأمن” قد أُفرغت من معناها في عهد النظام السابق، فإنها تعود اليوم كأدوات مكرّرة تُستخدم بالمنطق ذاته، لكن تحت شعارات ورايات جديدة، قد تختلف في الشكل وتتشابه في المضمون.
بلبلة حول الجرائم الرقمية
في تطوّر قضائي أثار جدلاً واسعاً، حرّك نقيب المحامين في دمشق دعوى عامة بحق المحامي فواز بهاء الدين الخوجة، بتهمة “نشر أنباء كاذبة من شأنها النيل من هيبة الدولة”.
الخوجة، المعروف بمواقفه الصريحة ونضاله القانوني المستمر دفاعاً عن العدالة في مواجهة الانتهاكات، بات اليوم في دائرة الاتهام، في خطوة وصفها حقوقيون بأنها تمثّل تصعيداً في التضييق على الأصوات المستقلة ضمن الجسم القانوني السوري.
فوضى سياسية وأمنية. شهدت الدولة السورية “الفتية” مقتلتين خلال أربعة أشهر فقط من عمرها، ما زاد من حدة التوترات الداخلية.
وفي هذا السياق، أُعلن عن خطوة مثيرة للجدل تمثّلت في قرار وزارة الداخلية السورية إنهاء وحدة مكافحة الجرائم المعلوماتية، بالتزامن مع تصعيد لهجتها تجاه من تصفهم بـ”مرتكبي الجرائم الرقمية”.
ووفقًا لما تم تداوله رسمياً، تعتزم الوزارة اتخاذ إجراءات قانونية صارمة بحق أي نشاط رقمي يُصنَّف ضمن التحريض أو الابتزاز الإلكتروني أو الشتائم والسب أو الترويج للإشاعات وبث الفتن.
كما لوّحت بإجراء غير مسبوق يقضي بنشر أسماء من تُصنّفهم كمخالفين ومحرضين إلى جانب صفحاتهم الإلكترونية، وتعميمها داخل سوريا وخارجها عبر الإنتربول الدولي، وهو ما قد يفتح باب الملاحقة القضائية للسوريين، حتى أولئك المقيمين خارج البلاد.