
خاص- توازن إقليمي جديد على أرض سوريا
صحيح أنّ المحور الإيراني ضعُف كثيراً، لكنّه لم ينهزم. وحده النظام السوري سقط بالكامل، بينما يحاول “حزب الله” النهوض، وما زال الحوثيون يطلقون صواريخهم بين الحين والآخر، فيما الميليشيات العراقية تنحّت جانباً، ولكن من دون أن يجري حلّها.
وحتّى النظام الناشئ في سوريا بقيادة أحمد الشرع ما زال يترنّح، على رغم الدعم الأميركي والسعودي الذي حظي به في الفترة الأخيرة. فالأحداث الدامية في السويداء، كادت أن تزعزع سلطة دمشق. وأثبتت أنّ الحكومة الجديدة في حالة وهَنٍ شديد، ولم تتمكّن من الظهور بمظهر الدولة الحامية لجميع المكوّنات. لا بل أنّ القرار بدخول الجيش إلى السويداء، تمّ التراجع عنه بسرعة، بعد الضربات الإسرائيلية التي طالت محيط القصر الرئاسي في دمشق ومبنى رئاسة الأركان ووزارة الدفاع.
وبدت إسرائيل كأنّها اللاعب الأهمّ والأقوى على الساحة الإقليمية. وتمكّنت من خربطة الاندفاعة الأميركية صوب سوريا الجديدة، ومن عرقلة الاتّجاه الأميركي الداعي إلى وحدة سوريا واندماج جميع المكوّنات في الدولة. وأدّى دعمها للدروز في السويداء إلى إبراز النزعة الانفصالية لدى هذه الأقلّية، التي تمكّنت بدعم من إسرائيل من إخراج الجيش السوري من المحافظة، التي تسلّمتها عمليّاً قوات الهجري.
وهذا يعني أنّ المشروع المخطّط له للمنطقة أميركياً، يختلف عن المشروع الإسرائيلي. ولهذا ما زالت الأمور متعثّرة، في كلّ من غزّة ولبنان وسوريا. وبالطبع لن تسلك اتّفاقات السلام التي يطمح إليها الرئيس دونالد ترامب طريقها سريعاً. فبينما تريد الولايات المتّحدة الانتهاء من الحروب وإطلاق المشاريع الاقتصادية الضخمة في المنطقة، فإنّ هدف إسرائيل هو الإبقاء على سيطرتها الأمنية، وإضعاف الدول المحيطة بها إلى أقصى الحدود، كي لا تقوى عليها في يوم من الأيّام.
لذا، فإنّ الرغبة الأميركية في قيام دول موحّدة ومزدهرة، ووجه بعمليّات “تخريب” إسرائيلية، انطلاقاً من الأحداث الأخيرة في السويداء. فإسرائيل، إذ تدّعي دعم الأقلّيات، تعمل على إبقاء نظام الحكم المركزي في سوريا، كما في لبنان، ضعيفاً. فهي لا تثق بأحمد الشرع وتوجّهاته المتشدّدة، كما بعلاقته المتينة مع تركيا. وفي اللحظة التي رحّبت فيها بسقوط نظام الأسد، أحد أهمّ حلفاء إيران، فإنّها أبدت خشيتها من حكم الشرع. وقرّرت فور وصوله إلى السلطة التوغّل في مناطق جنوب سوريا والسيطرة على قمّة جبل الشيخ، بحجّة حماية أمنها.
ولا يُعرف ما إذا كان المخطّط الإسرائيلي للمنطقة يقوم على تشجيع نشوء دويلات طائفية أو فدراليات أو مناطق حكم ذاتي، أو أنّ هدفه هو فقط إضعاف الدولة المركزية، وإبقاؤها في حالة نزاع مع المكوّنات داخلها، بما لا يسمح بقيام دول قويّة في جوار إسرائيل، بحيث تبقى وحدها الدولة المتفوّقة عسكرياً وتكنولوجيّاً، وحليفة واشنطن بلا منازع في الشرق الأوسط. وفيما كان متوقّعاً أن تنطلق سوريا بسرعة قياسية نحو النهوض وبناء الدولة، فرملَ التدخّل الإسرائيلي الأخير هذه الانطلاقة. كذلك، عاد الحذر يشوب التطلّعات الأميركية نحو دمشق.
إذاً، هناك توازنات جديدة في طور التشكّل. والعمليّة الانتقالية إلى “شرق أوسط جديد” لم تنتهِ بعد. فاللاعبون كثر، من إسرائيل إلى تركيا وإيران والسعودية، وطبعاً برعاية أميركية، وربّما يكون هناك دور محدّد للروس أيضاً. وعندما يتمّ تقاسم الأدوار وتحديد الخطوط الحمر، تكون المرحلة الجديدة قد بدأت.
وإلى الدور الإسرائيلي المهيمن، تسعى تركيا أيضاً إلى دور موازٍ لها. وهي تحاول استغلال الأحداث الأخيرة، لتجد مبرّراً لتقديم العون لحكومة دمشق. فأنقرة، التي استثمرت كثيراً في الحرب السورية، تتمسّك بدور مستقبلي لها في هذا البلد. فهي تدعم أحمد الشرع، وتعمل على مساعدة الجيش السوري. كما أنّ هناك حديثاً غير مؤكّد عن احتمال عقد اتّفاق أمني مشترك. فتركيا تسعى إلى نفوذ لها في الشمال السوري، خصوصاً من أجل كبح جماح الأكراد، فيما تريد إسرائيل تثبيت نفوذها في الجنوب.
كما أنّ السعودية، التي افتتحت مرحلة علاقات طيّبة جدّاً مع الولايات المتّحدة، تريد المحافظة على توازن معيّن بين تركيا وسوريا وإسرائيل. ودعماً للحكومة السورية، انعقد مؤتمر الاستثمار السوري السعودي، حيث سيتمّ توقيع اتّفاقات بقيمة 6.4 مليارات دولار.
ولكن الأمر المفصليّ في تحديد التوازنات الجديدة، يكمن في الموقف الإيراني، وفي المفاوضات التي قد تحصل بين طهران وواشنطن حول الملفّ النووي. وليس واضحاً حتّى الآن، ما إذا كانت الأمور تتّجه إلى تسوية واتّفاق في الملف النووي، أو إلى تجدّد الحرب. ففيما يقول الرئيس ترامب إنّه غير مستعجل على الاتّفاق مع طهران، يؤكّد وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس احتمال تجدّد الحرب على إيران، بهدف تأمين خطّة فعّالة، تضمن عدم استئناف إيران برنامجها النووي. وفي ضوء أيّ اتّجاه سيسلكه الملفّ الإيراني، سيتحدّد مصير “حزب الله” وسلاحه.