فيروز وزياد الرحباني: شراكة فنية استثنائية وسرّ الصورة الأخيرة

فيروز وزياد الرحباني: شراكة فنية استثنائية وسرّ الصورة الأخيرة

الكاتب: شربل بكاسيني | المصدر: النهار
26 تموز 2025

كان مفاجئاً أن تُغنّي فيروز موسيقى “الجاز”. بروح المغامرة التي دفعت بها مع الأخوين رحباني نحو خطّ موسيقي حداثي في خمسينيّات القرن الماضي، خلافاً للنمط الفنّي السائد، دخلت فيروز غمار التجربة الجريئة مع ابنها زياد الرحباني.

نسمة خفيفة اجتمعت بثقل السؤال الوجودي حين تشتدّ صراعاته. لقاء بين صوتٍ يهمس للأفئدة وعقلٍ يسكنه التمرّد. هكذا ولدت الشراكة الفنّية بين الأمّ وابنها، هي التي قالت عنه ذات مقابلة إذاعية: “زياد عبقرية فنّية أخذت ملامحها من رأيه في الحياة الإنسان والوطن والشعب”، وترنّمت بأرجوزة لأعرابيّةٍ في وصفها ابنها:

“يا حبّذا ريحُ الولد
ريحُ الخزامى في البلد
أهكذا كلّ ولد؟
أم لم يلد قبلي أحد؟”

لم يكن التعاون الفني مجرّد امتداد طبيعي لتراث عاصي ومنصور وفيروز، بل كان زلزالاً إبداعياً أعاد رسم الحدود بين الخطّ التقليدي والتجديد المحفوف بالخطر وبين الشجن والحنين والوعي الطبقي، واستكمالاً لمسيرة بدأها زياد بلحن “سألوني الناس” في مسرحية “المحطة” (1973).

لمّا أمسك زياد الرحباني بزمام التأليف والتلحين لفيروز بعد انفصال فيروز عن الأخوين رحباني، خلع عباءة التلميذ المطيع في مدرسة أبيه. كان ابن الحالة الفنّية العنيفة والمُجدّدة، وابن لحظة ملتهبة، وفنّ عميق ببساطته يبحث عن هويته. أدخلها إلى المقاهي وحارات الناس المهمّشين، حيث يُغنّى الحرمان ويُقذف بالنفاق المجتمعي، فغنّت مثلاً “صبحي الجيز”. وتوالت الأغنيات التي قيل يومها إنّها لا تُشبه فيروز المقدّسة في الذاكرة الجماعية؛ ولعلّ “كيفك إنت” كانت أشدّها غرابة، حتّى أنّ فيروز نفسها تردّدت قبل غنائها.

غيّر زياد من صورة فيروز النقية التي رسمها لها الأخوان، من دون أن يخدش النقاء والحياء. كان يعرف تماماً أين ينتهي السياج الذي نصبته السيّدة، وأين يمكن خرقه.

في “معرفتي فيك”، “صباح ومسا”، “شو بخاف”، وغيرها، غنّت فيروز تلبّك الحبّ، والغضب والخذلان، وذلك الحب الناضج بنضج مآسيه. وزياد مارس بموسيقاه تفكيك الصورة النمطية لأمه ليكشف وجاً آخر لها، ويقول وإيّاها إنّ فيروز يمكنها غناء “الجاز” وتحدّي التقليدي.

لقاء زياد وفيروز سبّب صدمة لدى بعض جمهورها. من كان يتوقّع أن تغني “حاج تنفّخ دخنة بوجّي ولو بتدخّن لايت”، أو “كيف إنت؟ ملّا إنت!”، أو “حبّيت ما حبّيت ما شاورت حالي”، وقبلها جميعها “في واحد هو ومرته، ولو شو بشعة مرته!”. من كان يتوقّع أن تُعيد تسجيل ترنيمتها الأيقونية “يا مريم البكر” على إيقاع “الجاز”، وتُهدي عاصي الرحباني باقة من أُغنياتها بحلّة متجدّدة في ألبوم “إلى عاصي”؟ لكن الصدمة كانت ضرورية لتشهد على تحوّل الفن من الملاذ الآمن. ولهذا السبب، فإنّ هذه المرحلة من مسيرة فيروز لا تزال تُناقش، بحُبّ وانتقاد.

ما فعله زياد الرحباني في ألبومات “وحدن” (1979) “معرفتي فيك” (1987)، “كيفك إنت” (1991)، “إلى عاصي” (1995)، “مش كاين هيك تكون” (1999)، “ولا كيف” (2001)، و”إيه في أمل” (2010) هو أنه نقل صوت فيروز من رومنسية الجبل إلى وحشيّة المدينة. لم يكسر صورتها، بل حرّرها من جمودها، وفتح باباً لتكون فنانةً لكلّ الأزمنة.

والجمهور سيظلّ يستذكر زياد كلّما سمع فيروز تُغنّيه. والذين أحبّوا الأم وابنها أفرحتهم صورة العائلة وقد لمّت شملها في قدّاس بذكرى الكبير عاصي قبل ثلاثة أعوام. وفي الصورة سرّ من أسرار حبّ الجمهور لهذا البيت، وفيها دفء وحبّ ومودّة. فيروز، ريما، وهلي… وزياد “ركب عربيّة الوقت” وسافر وحده للقاء عاصي وليال. و”دايماً بالآخر في آخر… في وقت فراق”.