
السويداء «حجر الزاوية» في تحديد مسار «سوريا الجديدة» وتأرجح بين مشروعين!
يبدو المشهد على كثير من التعقيد في السويداء. يكفي أن يكون الأمريكيون قد أعلنوا وقف إطلاق النار في تلك المحافظة في الجنوب السوري بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس السوري للمرحلة الانتقالية أحمد الشرع، حتى تكون تل أبيب قد انتزعت ورقة دروز السويداء بحكم موقعهم الجغرافي، أو على الأقل كرَّست دورها كوصي على هذه الطائفة التي يمتد وجودها إلى إسرائيل، حيث يخدم أبناؤها في الجيش الإسرائيلي، كما يمتد إلى الجولان المحتل.
سيكثر النقاش حول الدور الذي تريد إسرائيل أن يلعبه دروز السويداء، وهم يُشكِّلون الغالبية في تلك المحافظة، التي تضم أيضاً، عشائر البدو، الأقدم حضوراً في تلك البقعة من سوريا، والمسيحيين. إسرائيل تُقدِّم نفسها حامية لهم، وذريعتها أن شيخ عقل طائفة الدروز في إسرائيل موفّق طريف طلب من نتنياهو التدخل لنجدة إخوانه في السويداء حين وقعت الأحداث في 13 تموز/يوليو بين فصائل درزية وأبناء البدو، تطوّرت إلى مواجهات دامية تدخلت على إثرها القوات الحكومية ومسلحو العشائر العربية، ووقعت خلالها تجاوزات وارتكابات ومجازر وقتلٍ عشوائي من الطرفين، أسفرت عن سقوط ما يزيد على ألف قتيل خلال أسبوع، بينهم مدنيون.
إسرائيل على خط الأحداث
أدى دخول إسرائيل على خط الأحداث، حيث قصفت أهدافاً عسكرية في السويداء، واستهدفت وزارة الدفاع في قلب دمشق ومحيط القصر الجمهوري، إلى تبدُّل الصورة لصالح الفصائل الدرزية داخل المحافظة التي تأتمر بكلمة أحد مشايخ عقل الدروز في السويداء حكمت الهجري. وسبق انتشار قوات وزارة الدفاع السورية في السويداء محادثات سورية – إسرائيلية في الإمارات وفي أذربيجان يُفترض أنها تبحث في ترتيبات أمنية في الجنوب السوري، الذي تقول تل أبيب إنها تريده منزوع السلاح كونه يُشكّل جزءاً من أمنها القومي، ولضمان حدودها من تكرار مستقبلي لـ«7 أكتوبر ثان»ٍ في قابل العقود، ولا سيما مع تحوُّل الحكم في سوريا إلى الأكثرية السُّنية. وجاء دخول القوات الحكومية باتفاق مع مشايخ عقل الطائفة الثلاثة والوجهاء قبل أن ينقلب الهجري ويعلن أنه وَقَّع على الاتفاق تحت ضغط المشايخ الآخرين.
تحوَّلت السويداء إلى حجز الزاوية لتحديد المسار الذي ستسلكه سوريا الجديدة، وما سيكون عليه حال المركز والأطراف. فليست العقدة الوحيدة هي السويداء، بل هناك ما ينتظر مستقبل الجزيرة العربية، حيث إن قوات سوريا الديموقراطية التي تُسيطر على شمال شرق البلاد منذ اندلاع الثورة قبل 14 سنة، تلقت دعماً دولياً، وكانت الذراع المحلية على الأرض لـ«لتحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية» (داعش)، وتطمح إلى انتزاع حكم ذاتي للأكراد في تلك الجغرافيا السورية التي تكتنز الثروات من نفط ومياه وسلة غذائية. وبعدما وقَّع قائد «قسد» مظلوم عبدي اتفاقاً مع إدارة دمشق بشخص الشرع في 10 آذار/مارس الماضي، برعاية أميركية، تضمن دمج كل المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضمن إدارة الدولة السورية، بدا أن عبدي يعمل على التنصُّل من الاتفاق متكئاً أكثر على ما جرى في السويداء، وما يمكن أن تنتهي إليه الترتيبات هناك.
وشهدت باريس يوم الخميس الماضي (24 تموز/يوليو) اجتماعاً سورياً – إسرائيلياً، هو الأرفع، بين وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني ووزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر برعاية المبعوث الأمريكي إلى سوريا، والسفير الأمريكي لدى تركيا توماس برَّاك، الذي قال في منشور له على «إكس»، إنّ «هدفنا كان الحوار وتهدئة الأوضاع، وهذا بالضبط ما حقّقناه. ولقد جدّدتْ كل الأطراف التزامها بمواصلة هذه الجهود». وكشف موقع «أكسيوس» أن الاجتماع دام 4 ساعات، ونقل عن مسؤول إسرائيلي قوله إنه «يأمل أن يُمهِّد هذا الاجتماع إلى مسار دبلوماسي أوسع، معتبراً أن اجتماع باريس كان خطوة أولى للمضي قدماً».
وبالتوازي، عُقد في باريس اجتماع آخر، سوري – أمريكي – فرنسي، بين الشيباني وبرَّاك ووزير الخارجية الفرنسي جان-نويل بارو، خرج ببيان يؤكد على «التعاون في الجهود الرامية إلى ضمان نجاح المرحلة الانتقالية في سوريا ووحدتها وسلامة أراضيها، وعلى ضرورة ضمان ألا يُشكِّل جيران سوريا تهديداً، وألّا تُشكِّل سوريا تهديداً لجيرانها. وأكد على دعم الحكومة السورية خلال المسار الانتقالي السياسي وتحقيق المصالحة الوطنية في السويداء وشمال شرق البلاد». على أن المراقبين يرون أن التفاوض بين الإدارة السورية و«قسد» لن يكون سهلاً وميسَّـراً من دون السقوط في المطبات، فإعلان إعلام «قسد» أن تسليم السلاح هو خط أحمر، وإلغاء الاجتماع مع مظلوم عبدي الذي كان مقرراً عقده في العاصمة، كلها مؤشرات سلبية على حساسية ودقة هذا الملف، ولا سيما أن تركيا – التي نجحت في إنهاء ملف «حزب العمال الكردستاني» لصالحها – لن تسمح بنشوء كيان كردي في سوريا، حيث تريد إسرائيل أن تمدَّ نفوذها إلى شرق الفرات، وتأمين ما يُعرف بـ«ممر دوواد».
حلف الأقليات
كان لافتاً توقيت خروج البيان المتلفز لرئيس المجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر الشيخ غزال غزال الجمعة (25 تموز/يوليو)، الذي يأخذ من أحداث السويداء وتفجير كنيسة مار الياس في دمشق ونتائج لجنة التحقيق في أحداث الساحل السوري، مناسبة ليشن هجوماً على ما أسماه سلطة الأمر الواقع والمطالبة بحماية دولية. تتناغم تحركات الأقليات في سوريا، وتعود تلك المكونات لإحياء أحلام قديمة – جديدة اسمها «حلف الأقليات» وسط بحر من السُّنة في المنطقة. ولعل من المفيد التوقف عند الرسالة التي نشرها، على مواقع التواصل الاجتماعي، الناشط السوري رامي نخلة، الموجود في جنيف، والذي قُتل أخوه مع بدء أحداث السويداء. الرسالة موجهة إلى أبناء السويداء من أجل تحديد خياراتهم بين مشروعين متضاربين لسوريا: المشروع الأول يتمثل بـ«سوريا دولة إسلامية وسطية معتدلة، قائمة على القانون، والتعددية، واحترام الأقليات، ومنفتحة على المجتمع الدولي، مزدهرة سياسيًا واقتصاديًا وثقافيًا، وحليف إقليمي للإسلام الوسطي المعتدل الممتد من أنقرة حتى الخليج. وهذا المشروع مصيري مدعوم بقوة كبيرة من تركيا، والأردن، والسعودية، ودول الخليج، ومدعوم أيضًا من الولايات المتحدة الأمريكية (على الأقل حتى نهاية رئاسة ترامب).
أما المشروع الثاني، فهو المشروع الإسرائيلي، ويهدف إلى ضرب المشروع الأول الذي يهددها، من خلال قطع هذا التحالف الجغرافي في السويداء، والعمل على إسقاط حكومة الرئيس الشرع، أو إنهاك سوريا بالحروب الطائفية بين السُّنة والدروز، والسُّنة والعلويين، والدولة والأكراد. ويقول نخلة، الذي كان يُعرف باسم ملاذ عمران مع بدء الثورة السورية، إنه في صف المشروع الوطني الأول ويعمل على إنجاحه، لأنه يحمل لبلادنا التقدّم والازدهار، ولشعبنا السلام والأمان، ولثورتنا النصر. بينما سيؤدي المشروع الثاني إلى عقود من الاقتتال الطائفي، والانفلات الأمني، والدمار لسوريا، والجبل. ويدعو إلى وقف حملات التخوين للدروز وللهجري ورد الاعتبار لهم عبر التوصل إلى إبرام اتفاقيات بين الشرع والهجري شخصياً، تُظهر احترام الدولة لهم ولقيادتهم، والاتجاه إلى تشكيل جهاز أمني مشترك تدريجي، يتساوى فيه العدد والرتب بين الدروز وأمن الدولة، مما يمهد لدمج باقي المؤسسات.
ولكن ما لم يقله الناشط السوري الذي يُشكِّل جزءاً من «اللوبي» لمصلحة الدولة السورية الناشئة، أن الهجري تنصَّل من تطبيق الاتفاقات التي جرت بين السويداء ودمشق. يقول أحد المطلعين عن قرب على الاتفاق، الذي تمَّ التوصل إليه منذ شهر كانون الثاني/يناير 2025، إنه اتفاق مالت كفته لصالح السويداء، وأخذ بالاعتبار كل الهواجس، وهدف إلى قطع الطريق على ما يُحاك من تفجير أزمة بين الدروز والسُّنة والالتحاق بالمشروع الإسرائيلي، إلى حد أن ما حصل عليه الدروز يُشكِّل ما تُطالب به قسد بسقفها العالي. فالاتفاق ينصُّ على أن الشرطة كلها من السويداء، والأمن العام من السويداء، وأن فصائل السويداء العسكرية لا تُسلّم قطعة من سلاحها، وتندمج مع وزارة الدفاع وتبقى في السويداء، لكن الهجري كان يماطل ومن ثم انقلب على الاتفاق.
يبدو اليوم أن الأمور أصعب وأعقد، فقبل الأحداث، كان هناك توازن في السويداء، لكنه مفقود اليوم. فعندما تسقط الدماء، تغزو «الغريزة» العقل وتحتله. إلاّ أنه في النهاية، لا بد من حوار ومصالحة واتفاقيات. ما تغيَّر أن ذلك سيحصل بعدما دفعت السويداء فاتورة قاسية وحصل شرخ كبير.