
“بعتُ قلبي لأهرب من الجحيم”: زواج المصلحة في لبنان… حكاية لا حبّ فيها
لم تنتظر أن يأتي فارس الأحلام حاملًا وعد العمر، بل قرّرت بمرارة أن تبيع قلبها مقابل ورقة تأشيرة تهرب بها من جحيم لبنان المتسارع في الانهيار. بلا حبّ، بلا وعود، بلا “أنا أحبك”… فقط عقد بارد مع رجل يكبرها بعقود، يحمل مفاتيح حياة جديدة بعيدًا من سقف الأحلام المنهار تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
في وطنٍ يغرق في أزماته، حيث تنهار العملة وتختنق الطموحات، وحيث تُقيّد النساء بأغلال مجتمع متصلّب، صار زواج المصلحة خيارًا قاسيًا لا مفرّ منه، رحلة يائسة نحو النجاة وسط خراب الأحلام، ونبض محاصر بين خوف الهروب وقسوة البقاء.
هل يمكن أن يكون الحبّ باهتًا إلى هذه الدرجة؟ أم أن الواقع المرير هو الذي يُجبرنا على بيع مشاعرنا مقابل فرصة للبقاء؟ هذه قصص لا تُروى إلّا بصمت القلوب التي لم تجد سوى الهروب.
“تزوّجت لأهرب من جحيم حياتي”
تفضّل امرأة لبنانية في أواخر العشرينات، عدم الكشف عن هويتها. تتحدّث لـ “نداء الوطن” بصراحة موجعة عن قرارها الذي لم يكن خيارًا بل هروبًا من واقع قاتم: “لم يكن هناك حبّ، ولا حتى شعور بسيط. كنت غارقة في يأس عميق واكتئاب، محاصرة بين جدران واقعٍ لا يرحم. هو كان يبحث عمّن تعتني به وتخفّف وحدته، وأنا كنت أريد فقط فرصة للهروب من لبنان، بداية حياة جديدة، فرصة للتنفّس. لم يكن هناك أي وعد بمستقبل مشترك، فقط اتفاق صامت على مصلحة متبادلة تنقذنا من عذاباتنا”.
وتتابع بمرارة: “الرجل يكبرني بـ 36 سنة، وقراري هذا لم ينبع من حبّ أو شغف، بل من قسوة الفقر الذي تعيشه عائلتي، من واقع ماليّ هشّ يدفعك لتقبّل ما لم تكن تحلم به يومًا. الحياة اليوم فرضت عليّ أن أتكيّف مع نمط مختلف، لا يشبه ما قبل الأزمة. كانت هذه الزيجة بوصلتي الوحيدة للخروج من دوامة اليأس التي قتلتني”.
وتختتم بصوت مكسور: “اليوم أنا في بلد آخر أحاول أن أبني نفسي، لكن الفراغ العاطفي، ذلك الجرح الصامت، لا يزال يلاحقني بلا رحمة”.
الهروب لا الاختيار: تحليل نفسي
تقدّم الاختصاصية في علم النفس العيادي الدكتورة رانيا خويري، قراءة نفسية معمّقة لظاهرة الزيجات الانتهازية في لبنان، وتشير في حديث خاص لـ “نداء الوطن” إلى أن هذه الظاهرة ليست مجرد اتفاقات انتهازية، بل هي رد فعل نفسي يعكس حالة اختناق وانعدام أمل يعيشها الكثير من الشباب اللبناني. وتتابع: “لا يمكن النظر إلى هذه الزيجات كاختيارات واعية وسليمة، بل هي بمثابة صرخة هروب من واقع قاتم يعيشه هؤلاء الشباب”.
وتضيف خويري: “في كثير من الحالات التي أتابعها، يسود توتر نفسي مستمرّ لدى الطرفين، خصوصًا أولئك الذين يشعرون بفقدان شخصيتهم أو حقهم في علاقة طبيعية. الصراع بين العقل الذي يبرر هذه الصفقة والقلب الذي يفتقد الحنان والعاطفة يولّد مشاعر معقّدة مثل الاغتراب النفسي، الندم، والخوف من اكتشاف أن العلاقة مجرد غطاء شكلي”.
وتنوّه بأن هذه الحالات غالبًا ما تنتهي بأزمات نفسية عميقة، مشيرة إلى أن “الشعور بالذنب، القلق المستمرّ، والخوف من الفشل يولّد اضطرابات نفسية مثل الاكتئاب والقلق المزمن، كما أن فقدان الثقة بالنفس وبالآخر يؤدي إلى تدهور العلاقات الاجتماعية والعائلية”.
هشاشة الوضع القانوني
تشير المصادر القانونية المختصة في قضايا الأحوال الشخصية والهجرة إلى أن الزواج بهدف الحصول على إقامة أو جنسية ليس ممنوعًا قانونيًا في العديد من الدول، إلّا أن هناك رقابة صارمة تُمارس في بعض الدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا وهولندا. وتعمل السلطات هناك على التحقق من صدقية الزواج عبر إجراءات دقيقة تشمل مقابلات شخصية، وفحص الرسائل، والصور، والوثائق التي تثبت الحياة المشتركة بين الزوجين.
وتُعرف هذه الإجراءات بـ “التحقيق الزوجي”، حيث يُطلب من الطرفين الإجابة عن أسئلة تفصيلية حول حياتهما اليومية، المناسبات التي حضراها معًا، تاريخ تعارفهما، وحتى عادات كلّ منهما. وأي تناقض في الإجابات يُعتبر مؤشرًا قويًا على وجود احتمال زواج مصلحة.
وعلى صعيد العواقب القانونية، يتمّ التنبيه إلى أن ثبوت الاحتيال قد يؤدي إلى سحب الإقامة أو الجنسية من الطرف غير المحلي، مع احتمال ترحيله. أما الشريك المحلي، فقد يواجه غرامات مالية، ويُمنع من الزواج بأجانب في المستقبل، وربما يتعرض للملاحقة القضائية في بعض الحالات.
وتُشير المصادر إلى وجود “منطقة رمادية” في هذه العلاقات، حيث يكون الاتفاق غالبًا ضمنيًا ودون مستندات مكتوبة، ما يصعّب إثبات النية الأصلية للزواج. ومع ذلك، قد تكشف سلوكيات الطرفين أو التناقضات في أقوالهم عن النية الحقيقية، ما يؤدي إلى انهيار العلاقة على الصعيدين القانوني والاجتماعي.
معيار زواج المصلحة: رؤية اجتماعية
في قراءة اجتماعية لظاهرة زواج المصلحة، يُفسّر هذا النوع من العلاقات على أنه مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالانهيارات البنيوية التي يعيشها لبنان، حيث يُعرف زواج المصلحة بأنه عندما تُختزل العلاقة بين الشريكين إلى تبادل مصلحة قانونية أو مادية، في غياب أي مشاعر أو التزام عاطفي حقيقي. في هذه الحالة، لا يكون الزواج بناءً إنسانيًا، بل صفقة باردة هدفها تأشيرة أو إقامة أو مهرب من واقع مأزوم.
ويُعتبر تفشّي هذه الظاهرة نتيجة طبيعية لأزمة ثقة مزمنة بين المواطن والدولة، وانهيار العقد الاجتماعي الذي يفترض أن يوفّر الأمان والكرامة للمواطن داخل وطنه.
وعندما يفقد الإنسان الأمل في وطنه، يتحوّل جسده وعلاقاته إلى أدوات للبقاء. الزواج، الذي كان يومًا فعل حب وشراكة، صار وسيلة للعبور إلى الضفة الأخرى من الحياة، ولو كانت عاطفيًا ميتة.
اليوم، لبنان يقف على مفترق مصيريّ. استمرار النزيف المجتمعي والاغتراب الداخلي يدفع أجيالًا شابة إلى خيارات قسرية، لا تعكس رغبتها الحقيقية، بل رغبتها الوحيدة في النجاة.