
تعزيز خطاب الطمأنينة.. لا عودة إلى لغة الحرب
في مرحلة يكثر فيها التهويل، ويستسهل فيها اللعب على التناقضات الداخلية، برز في الخطاب السياسي اللبناني مشهد مختلف يعكس نضجا استثنائيا على كل المستويات، يبشر بولادة وعي وطني جامع يحول دون انزلاق البلاد مجددا إلى مستنقع الانقسام أو الارتهان للخارج.
وقد أثبت اللبنانيون من خلال مواقفهم المتناغمة تجاه القضايا المصيرية، أنهم تعلموا من تجارب الماضي المريرة، وأنهم على استعداد لبناء مستقبل مستقر يتجاوز لغة العصبيات والتحريض، ويؤسس لحالة وطنية متقدمة قوامها الوحدة والشراكة، والاعتراف المتبادل بقيمة كل مكون في تركيب لبنان الفريد.
هذا النضج يتجلى قبل كل شيء في إسقاط فكرة الاستقواء بالخارج التي كانت تاريخيا أداة لتمزيق الداخل وتحويل الوطن إلى ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.
ووفق مصدر سياسي رفيع قال لـ«الأنباء»: «إن الاستقواء يجب أن يكون بالشريك في الداخل، لا على حسابه، لأن التجربة اللبنانية أثبتت أن الاستعانة بالخارج لإضعاف الفريق الآخر في الداخل كانت الوصفة الأسرع للانقسام والخراب. فبدلا من أن يبحث كل طرف عن دعم خارجي لتعزيز موقعه المحلي، بدأ الخطاب اللبناني يتحول نحو الدعوة إلى التماسك الداخلي، ضد أي تهديد خارجي، أكان أمنيا أو سياسيا أو اقتصاديا. هذه المقاربة تمثل تحصينا فعليا للوطن في وجه التحديات، وتقطع مع منطق»فرق تسد«، الذي طالما استفادت منه قوى خارجية، لاسيما إسرائيل، لزرع بذور الفتنة في المجتمع اللبناني».
ويشير المصدر إلى «أن التماسك الذي يظهر في التعاطي مع التحديات الراهنة، سواء ما يتصل بالمواجهة مع إسرائيل، أو بمخاطر الانهيار الاقتصادي، أو بتداعيات الحرب في الإقليم، يعكس حالة من الإدراك الوطني المتقدم بأن لا مفر من التعاون، وأن لا مصلحة لأي طرف في الانجرار إلى خطاب الإلغاء أو الاستئثار. فكل مكون لبناني له قيمة مضافة لهذا الوطن، وكل مواطن يحمل في ذاته ما يغني لبنان ويعزز وحدته، بغض النظر عن خلفيته أو موقعه أو انتمائه، فالوطن لا يقوم إلا بجميع أبنائه».
ومن المؤشرات الإيجابية التي تؤكد هذا النضج، التواصل والتنسيق الدائم بين الرئاسات الثلاث، وغياب أي خلافات جوهرية، على رغم بعض الشائعات التي يراد لها أن تشوش المشهد السياسي. فالحوار قائم، والنقاش مستمر، والمواقف تبنى على قاعدة التفاهم، لا على تقاطع الحسابات، ما يؤسس لأرضية صلبة قادرة على احتواء الأزمات ومراكمة الحلول. ويؤكد المصدر «أن العلاقة بين المسؤولين قائمة على تنسيق دائم بعيداو من الإعلام، وأن أي تباين لا يرقى إلى مستوى الخلاف، بل يعالج من خلال الحوار والتفاهم المسؤول».
وفي زمن التخويف والتحريض المتنقل، تشكل الرسالة الموجهة إلى اللبنانيين بأن «لبنان بخير» و«لا عودة إلى لغة الحرب»، خطاب طمأنة جامعا يحمل بعدا وطنيا وأخلاقيا عميقا، يراهن على الحس الوطني المتجذر لدى اللبنانيين، والرافضين بالفطرة لكل دعوة إلى الدم والخراب. وهذه الطمأنينة لا تنبع فقط من النوايا، بل من مؤشرات ملموسة، أبرزها الانفتاح العربي المتجدد على لبنان، واستعداد الأشقاء للدعم والمساعدة، شريطة أن يظهر لبنان نفسه كشريك مسؤول وجدير بالثقة.
أما في الشأن الإصلاحي، فإن التأكيد على أن الحكومة أنجزت ما لم ينجز منذ قرابة 15 سنة، ليس مبالغة، بل توثيق لحراك فعلي في ملفات عالقة منذ سنوات. ويشير المصدر إلى «أن العمل جار على ملفات جوهرية، في مقدمها مكافحة الفساد، مع الاعتراف بأن لا «عصا سحرية»، بل إرادة ومثابرة، واستثمار حقيقي للفرص المتاحة. واللافت، هو أن الفساد بات يسمى باسمه، من دون تغطية أو تبرير، وجرى كسر التابو الطائفي والمذهبي عنه، ليعامل كعدو مشترك يستهدف الدولة والمجتمع على السواء».
إن لبنان اليوم يقف على مفترق تاريخي فعلي، ويملك فرصة نادرة لإعادة بناء دولته من دون وصايات ولا استقواء ولا نزاعات عبثية. وحدته الوطنية لم تعد مجرد شعار، بل شرط وجود، ومصدر قوة، وضمانة للعبور نحو الاستقرار والازدهار. ويختم المصدر بالتأكيد على أن «لبنان سينتصر إذا توحدنا، وسينهار إذا تفرقنا. فلا أحد يمكنه إلغاء الآخر، ولا أحد أكبر من الوطن». هذا اللبنان الراشد، بتضامنه وحسه الوطني وتكامل مكوناته، هو الأمل الحقيقي، والسقف الوحيد الذي يجمع الجميع تحت ظله، فلا عودة إلى الوراء، ولا انتصار إلا بلبنان، ومن أجل لبنان.