
سوريا في مهد أميركي- خليجي للإعمار والاستثمار… ولبنان رهينة إيرانية- إسرائيلية مصيرها الدمار
رغم المجازر والفظائع التي ارتُكبت في السويداء والساحل، يمضي المستثمرون في الشرع ونموذج سوريا الجديدة نحو تأهيل لا سابق له في تقاطع لافت للمصالح وغض النظر عن كل ما من شأنه أن يعطّل انطلاق القطار
تمضي الولايات المتحدة وتركيا والسعودية ودول خليجية أخرى في اتخاذ خطوات عملية، نحو تحويل تجربة سوريا في عهد الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى نموذج يُقتدى به في الشرق الاوسط. نموذج التعايش مع إسرائيل والاستيعاب للحركات الأصولية المتطرفة والتفاعل مع الأقليات إنما ضمن أطر الدولة. الخطوط العريضة تشمل إبقاء روسيا وإيران خارج سوريا، والاستثمار الضخم في البنية التحتية للدولة وللبلاد. عقدة السلاح وحصره بالدولة تبقى معضلة كبيرة لأن الأقليات تصر على عدم تسليم السلاح إلى حين وضوح معالم الدولة الجديدة، لجهة تعاملها مع الأقليات ومدى سيطرتها على الأصولية والداعشية في البلاد. ثم هناك عقدة الفيدرالية واللامركزية التي تعارضها الدولة.
رغم المجازر والفظائع التي أرتُكبت في السويداء والساحل، يمضي المستثمرون في الشرع ونموذج سوريا الجديدة نحو تأهيل لا سابق له في تقاطع لافت للمصالح وغض النظر عن كل ما من شأنه أن يعطّل انطلاق القطار. فأين إيران وذراعها “حزب الله” من الحدث السوري اليوم؟ ولماذا يغيب مثل هذا الاهتمام بسوريا عن جاره لبنان؟ وأي دور تلعبه أوروبا خصوصاً مع إيران؟
أوروبا تبدو متأرجحة بين مشاكلها الأساسية على نسق الحرب الأوكرانية وتداعيات العداء مع روسيا، وبين دور تود أن تصوغه لنفسها إما بالتنسيق مع الإدارة الأميركية وإما بسباق معها لإحراجها. الترويكا الأوروبية التي تضم بريطانيا وألمانيا وفرنسا تسعى الى فرض نفوذها على أكثر من ملف في الشرق الأوسطـ، لكنها تصطدم أحياناً بنفسها وبأولوياتها المختلفة.
قبل الحديث عن محادثات الترويكا مع إيران ومواقفها من سوريا ولبنان، لا بد من التوقف عند إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عزمه على الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة أثناء الدورة المقبلة للجمعية العامة في أيلول/ سبتمبر. معنوياً، هذا تطوّر مهم لأن للاعتراف بدولة فلسطين من دولة بأهمية فرنسا وحجمها وطأة مميزة.
لافت ما أعلنه ماكرون وهو أن “علينا في نهاية المطاف بناء دولة فلسطين وضمان قابليتها للبقاء والسماح لها، عبر موافقتها على أن تكون منزوعة السلاح وعبر اعترافها الكامل بإسرائيل، بأن تساهم في أمن الجميع في الشرق الأوسط”. السلطة الفلسطينية رحّبت وشكرت السعودية على دورها الديبلوماسي مع فرنسا، مما يعني أن السلطة الفلسطينية تقبل دولة فلسطين منزوعة السلاح.
التفاصيل لجهة حدود الدولة غائبة عن الطرح الفرنسي. التركيز هو على الاعتراف بدولة فلسطين ضمن العمل مع السعودية على تأكيد حل الدولتين. أهمية هذه المقاربة تكمن في إعادة حشد الدعم الدولي لحل الدولتين، بما يعطّل مشروع إسرائيل التوراتي للاستيلاء على قطاع غزة والضفة الغربية، مشروع لا يلاقي الدعم المعلن من إدارة ترامب، لكنه لا يلاقي المعارضة الصريحة له بإجراءات.
الغطرسة والعناد والهمجية الإسرائيلية في سياسة التجويع لفرض الترحيل الطوعي لأهالي غزة لا تلاقي ما تستحقه من رفضٍ دولي، لا أميركياً ولا أوروبياً ولا شرق أوسطياً ولا آسيوياً ولا أفريقياً. يتحدث قادة أوروبيون اليوم بلغة إدانة غير مسبوقة لإسرائيل، إنما إجراءات العقوبات والعقاب مؤجّلة حرصاً على تلك المفاوضات المخجلة بين إسرائيل وحركة “حماس” والتي يُستخدم فيها المدنيون سلعاً رخيصة. فإذا كان لقادة الترويكا أن يتركوا أثراً حقيقياً، فلا مناص من التفكير الجدّي والآني بفرض عقوبات على إسرائيل بوسائل خلاّقة للضغط على “حماس”.
أما في موضوع لبنان، فإن الترويكا الأوروبية اختارت أن تجلس في المقعد الخلفي للقيادة الأميركية التي تتمثل الآن بالسفير لدى تركيا والمبعوث الخاص للرئيس دونالد ترامب إلى كل من لبنان وسوريا، توماس برّاك. فرنسا تلعب دوراً مع برّاك في ملف سوريا وإسرائيل، وهي تقليدياً معنية بلبنان. واليوم لها دور مهم للغاية في مسألة التجديد للقوة الدولية الموقتة في جنوب لبنان (يونيفيل) الذي يواجه عراقيل تضعها إسرائيل وكذلك الولايات المتحدة.
لكن فرنسا وألمانيا وبريطانيا التي عقدت جولة محادثات مع إيران الأسبوع الماضي حصرت البحث بالمسألة النووية. الأولوية النووية مفهومة، إنما ذلك لا يعني أن أوروبا مُلزَمة عدم طرح أي مسألة أخرى مع إيران رضوخاً أمام إصرار طهران التقليدي على منع أميركا وأوروبا من بحث موضوع الأذرع، أي وكلاء الحرس الثوري الإيراني ولاسيّما منهم الحوثي في اليمن و”حزب الله” في لبنان.
الأجدى بالترويكا أن تتجرأ على طرح مسألة الأذرع في المحادثات مع إيران لأن الرضوخ أمام إصرار إيران على عدم بحث هذا الملف، يعني عملياً أن الترويكا الأوروبية لن تعارض استمرار إيران في قضم السيادة اللبنانية. يعني عملياً أن أوروبا لن تعطّل على إيران إصرارها على استخدام لبنان ورقة ابتزاز في المفاوضات مع الغرب ولن تتحدى إملاء إيران على “حزب الله” ألاّ يسلّم سلاحه للدولة اللبنانية. هذا أمر خطير خصوصاً أن المواقف الأميركية متناقضة ومربكة نحو كل من إيران ولبنان.
السفير توماس برّاك يتقن سياسة الإرباك، إما عمداً لدفع اللبنانيين حكومة وشعباً إلى القلق كجزء من استراتيجيته، وإما سهواً لأنه يكثر من ارتكاب الأخطاء كما يكثر الكلام والاضطرار إلى تصحيح نفسه تكراراً. زياراته الثلاث إلى لبنان تركته عرضة للاستهجان إذ أنه تارة يرفع العصا وتارة يعرب عن تفهمه لأن مسألة حصر السلاح بيد الدولة “معقّدة”. تارة يصف “حزب الله” بأنه حزب سياسي، وأخرى يصنّفه إرهابياً. يخرج من اجتماعاته مع المسؤولين اللبنانيين متأثراً بأساليبهم الإرضائية بدلاً من التأثير فيهم من أجل اتخاذ القرارات السيادية.
توم برّاك انتقص من قدر الهيبة والجديّة الأميركية- devalued- عندما بدأ يتحدث بلغة “إننا نتفهم الصعوبات” و”الجميع يحاولون كل ما بإمكانهم لتسوية الأمور في لبنان، إلا أن الأمور معقدة”، و”هناك مشاكل تمنع التطبيق الكامل لاتفاق وقف النار، ووجهات النظر متعددة في هذا المجال”.
برّاك تحوّل من مبعوث حمل جديّة الرئيس ترامب في مطالبة الرؤساء الثلاثة في لبنان بتنفيذ التزام حصر السلاح بيد الدولة وبالتالي نزع سلاح “حزب الله”، إلى سياسي لبناني محلي “يتفهم” الصعوبات إنما لا يضمن ماذا ستقوم به إسرائيل إزاء رفض “حزب الله” قطعاً تسليم سلاحه.
هكذا غادر برّاك لبنان بلا إنجاز، بل تركه في مهب الرياح الإسرائيلية والإيرانية رافعاً عن نفسه المسؤولية، مكتفياً بمقولة “اصطفلوا” فالمشكلة مشكلتكم. هذه ليست سياسة، وهذه ليست مَهمَّة مبعوث رئاسي أميركي تحمل توقيع دونالد ترامب.
تذاكي المسؤولين اللبنانيين أوقع توم برّاك في مأزق خصوصاً أنه يُحسن لغة الاستثمار والمال وليس لغة الديبلوماسية التي يفترض أن تكون تحت إدارة وزير الخارجية الأميركي المغيّب ماركو روبيو. تذاكي الرؤساء الثلاثة أوقع الرئاسات الثلاث (رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة، ورئاسة مجلس النواب) في فخ تسليم سيادة الدولة والسماح لـ”حزب الله” ووراءه إيران بارتهانها.
هذا التذاكي سيدفع ثمنه لبنان وسيتملص الرؤساء جوزف عون، ونواف سلام، ونبيه بري، من تداعياته عندما تقوم إسرائيل بتدمير البنية التحتية اللبنانية، بحثاً عما يجاهر به “حزب الله” من استعادة قدراته العسكرية، بما فيها الصواريخ الإيرانية، في لبنان.
لا مبعوث ترامب إلى المفاوضات الإيرانية، ستيف ويتكوف، ولا مبعوثه إلى سوريا ولبنان توم برّاك، طرحا ضرورة الإصرار الجديّ على إيران بالتوقف عن استخدام سيطرتها على لبنان عبر الحزب كورقة تفاوضية مع إدارة ترامب. ذلك أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية لن ترضى إطلاقاً بتسليم ورقة لبنان، بعدما خسرت الورقة الاستراتيجية المهمة في سوريا، بلا مقابل كبير من الولايات المتحدة ومن إسرائيل.
ما لم يفهم ويتكوف وبرّاك وروبيو، وكذلك ترامب، ضرورة الضغط على إيران للكف عن استنزاف لبنان، لا حاجة لهم بالتظاهر بأنهم مهتمون بلبنان. وما لم يكونوا على استعداد للضغط أيضاً على إسرائيل لتلتزم الانسحاب من المواقع التي تحتلها في لبنان وأن تتعهد عدم إعادة احتلال الجنوب، بالتزامن مع الإصرار على بدء الدولة اللبنانية بتنفيذ تعهدها حصر السلاح عبر إجراءات وبرامج زمنية تفرض على “حزب الله” تسليم سلاحه، فإن الحرب التي سعى الرئيس ترامب الى إيقافها، عائدة حتماً.
استئناف الحرب على إيران هو الآن أولوية لإدارة ترامب إذا ما استمرت القيادات الإيرانية برفض التوقف عن تخصيب اليورانيوم. الأنظار تتجه إلى نهاية آب/ أغسطس كموعد لضرب إيران، لأن القيادات الأميركية ترى أن لا خيار آخر أمامها خصوصاً أن طهران مستمرة في استفزاز واشنطن وأنها تتلاعب لشراء الوقت في محادثاتها مع الترويكا الأوروبية، من أجل إبقاء الوكالة الدولية للطاقة الذرية بعيدة فيما تقوم السلطات الإيرانية بـ”تنظيف” الوضع النووي وإعادة تأهيل المنشآت النووية.
إدارة ترامب لا تريد لإسرائيل أن تفتح جبهات عديدة لأن للموضوع النووي الإيراني أولوية. لكنها لن تتمكن من لجم إسرائيل في لبنان إذا قررت أن الأمر يتعلق بأمنها وإذا استمر “حزب الله” في رفض تسليم السلاح. إدارة ترامب تريد لإسرائيل أن تأخذ الحيطة عندما تتخذ قراراتها في سوريا، فهذه مسألة ذات أبعاد استراتيجية للسياسة الأميركية.
ما يهم إدارة ترامب هو أن روسيا خرجت من سوريا بلا أي أفق للعودة إليها، وأن إيران خسرت مقراً وممراً في سوريا بضربة قاضية على مشروع الهلال الفارسي. تدرك أن الأصولية المتطرفة متأصلة وأن الدواعش أحياء يرزقون، لكنها مع حلفائها في سوريا يعتقدون أن استيعاب الأصوليين ممكن عبر ترضيتهم بقطعة من قالب الحلوى، بدلاً من المواجهة الدموية معهم.
طالما أن الرئيس السوري أحمد الشرع اتخذ القرار بالتفاوض والتفاهم مع إسرائيل، ترى إدارة ترامب وحلفاؤها في سوريا أن سوريا هي النموذج للسلام في المنطقة، وأن من الضروري تمكين الشرع باستثمارات ضخمة، وإعادة تأهيل الجيش السوري بالسلاح الأميركي البديل من الروسي، ودعمه سياسياً داخلياً.
ما تحصل عليه إسرائيل بالمقابل هو المنطقة العازلة وضمانات أمنية على حدودها بينها وبين سوريا. ما يُقال لإسرائيل هو أن ترتيبات تضمن ضبط “داعش” داخل سوريا حتى وإن كان يسيطر إلى درجة كبيرة، ترتيبات مفيدة طالما تكون السيطرة ضمن بنية معزولة لا تسبب الضرر لجهاز الدولة. بكلام آخر، ضمانات بأن سوريا لن تكون خطيرة على إسرائيل.
تحصل إسرائيل أيضاً على نفوذ سياسي في سوريا بترتيبات مع تركيا. وفي نهاية المطاف، ما تقدمه إسرائيل في مقابل كل ما تتلقاه من الولايات المتحدة، هو التهنئة على استثمارات أميركية في مقابل أموال ضخمة تتلقاها في مقابل النفط وإعادة تجهيز الجيش السوري الى جانب المنافع الاستراتيجية.
تركيا تبقى المستفيد الاستراتيجي الأكبر. لكن الدول الخليجية سارعت إلى استعادة جزء من النفوذ والتأثير على مستقبل سوريا عبر الإصرار على الاحتضان العربي لها. رغم كل التحديات، فإن الدول الخليجية شريكة في دعم أحمد الشرع وفي إعادة إعمار سوريا.
من هنا، إن منتدى الاستثمار السعودي- السوري الأسبوع الماضي سجّل قفزة نوعية بحيث كان واضحاً أن الشراكة الاستراتيجية بين السعودية وسوريا بعيدة المدى، إذ تم توقيع 47 اتفاقاً ومذكرة تفاهم بحوالى 6,4 مليارات دولار. من إنشاء مدينة طبّية متكاملة، إلى الزراعة والصناعة والمواصلات عبر خط مترو يربط شرق دمشق بغربها، إلى الغاز والمياه والكهرباء وكامل البنية التحتية، إلى التنمية العقارية، كل هذا يضع سوريا على سكة جديدة بدمج لها في محيطها العربي. فهنيئاً لسوريا على هذه النقلة الاستراتيجية والنوعية نحو الواقعية في اعتماد الاستثمار أساساً للسياسة.
لعل حكام لبنان يتعلمون درساً من الحكم الجديد في دمشق ولا يتكابرون على مساعدات خليجية في انتظارهم تحت ذريعة عدم القدرة على ضبط “حزب الله”. لعلهم يطالبون أميركا وأوروبا والعرب بالضغط أيضاً على إيران، وليس فقط بضمانات إسرائيلية، لأن الأمرين مرتبطان. لعلهم يتوقفون عن الهروب إلى الأمام خوفاً من الاستحقاقات السياسية، وليس حرصاً على سلامة لبنان.
وليت الدول الخليجية العربية تدرس إمكان المغامرة بدعم لبنان، كما فعلت في سوريا. ففي البلدين العنوان الأساسي هو اللااستقرار. وكما يعبث “حزب الله” وإسرائيل بلبنان، فإن الأصولية المتطرفة ما زالت تعبث بسوريا. عسى أن تكون الشراكة الأميركية- التركية- الخليجية في سوريا مصدر إيحاء للقائمين عليها للتفكير خارج الصندوق من أجل إنقاذ لبنان من حرب إقليمية ودمار. فلبنان أيضاً يستحق الاستثمار في الإعمار تحدياً لأولئك الذين يريدون له الدمار.