
الهدنة المُعلَّقة والحرب المُؤجَّلة: لبنان في مهبّ الخيارات
يعيش لبنان مرحلة انتقالية غامضة، تفتقر إلى الحسم، فيما يرزح المواطنون تحت وطأة ترقّب مشوب بالقلق، بانتظار ما قد تؤول إليه الأمور بين إسرائيل وحزب الله. هذا في ظل تمسُّك الحزب العلني بسلاحه، وإصرار إسرائيل مواصلة اعتداءاتها على لبنان من أقصاه إلى أقصاه واستهداف كل ما تعتبره تهديدًا أمنيًّا.
في التاسع عشر من حزيران/يونيو، زار الموفد الأميركي توم باراك بيروت لأول مرة بصفته مفاوضًا، حاملًا مبادرة بلاده الرامية إلى نزع سلاح حزب الله، وبدء إصلاحات مالية وقضائية، وردم الهوّة المالية المتراكمة. ناقش الورقة الأميركية مع المسؤولين، ونقل الرد اللبناني إلى واشنطن، ليعود مجددًا في السابع من تموز/يوليو في زيارته الثانية حاملاً خريطة طريق واضحة لما يفترض أن تنفّذه الحكومة اللبنانية وفق ما ورد في ردّها السابق.
وعلى عكس التوقعات، لم يحمل باراك معه نذر التهديد والوعيد، بل فاجأ الأوساط السياسية بإعلانه من قصر بعبدا أنه “راضٍ بدرجة لا تُصدَّق” عن الرد اللبناني، واصفًا ما قدّمته الحكومة بأنه “مذهل، وخلال فترة زمنية قصيرة جدًا”. غير أنّه امتنع عن كشف مضمون الرد.
في لقاء غير رسمي مع مصادر مطلعة على خفايا الموقف الأميركي، كُشف لي أنّ ما يُميّز هذه الجولة هو غياب أي تسريبات تفصيلية للورقة الأميركية أو الردود عليها، وهو ما اعتبره باراك إنجازًا نادرًا في العمل السياسي اللبناني. ومع ذلك، أشارت المصادر إلى أنّ الاهتمام اللبناني انصبّ على بند سلاح الحزب، في حين تضمّنت الخريطة الأميركية مطالب إصلاحية لا تقل أهمية على الصعيد المالي والقضائي.
أما الزيارة الثالثة، بين 20 و22 تموز/يوليو، فحملت طابعًا أكثر حدة، إذ سعى باراك إلى مناقشة خريطة الطريق بالتفصيل، بما في ذلك مهل تنفيذية محدّدة لنزع سلاح حزب الله، مقابل وقف الغارات الإسرائيلية وانسحاب القوات التي لا تزال تحتل مواقع في جنوب لبنان. لكنه شدّد، ردًّا على سؤال أحد الصحافيين، أنّ واشنطن لا تستطيع “إرغام” إسرائيل على وقف هجماتها، ما دام الحزب يحتفظ بترسانته.
بين التفاؤل والتشاؤم: مشهد متقلّب
رغم اللقاءات المتكررة مع الموفد الأميركي، لم تُخفِ جهات محلية ودولية تشاؤمها من مآلات المرحلة المقبلة. فبعض السفارات الأجنبية في واشنطن تلقّت تقارير تؤكد احتمال تعرّض لبنان لضربات إسرائيلية مؤلمة قبل نهاية الصيف، في ظل انسداد الأفق:
فحزب الله لا يزال متمسكًا بسلاحه، دون تحديد أي نوع من الأسلحة قد يقبل بالتخلي عنه، بينما يطالب بضمانات لم تتّضح ماهيّتها بعد -سواء كانت داخلية أو دولية- وهي ضمانات رفض توم باراك تقديمها حتى الآن. في المقابل، يبدو أن إسرائيل، وهي في ذروة فائض القوة، ماضية في استراتيجيتها التي تهدف إلى القضاء على كل أشكال المقاومة في غزة والضفة ولبنان، مع استمرار الضربات الاستباقية، كما حصل في سوريا مؤخرًا خلال أحداث السويداء.
أمام هذا الاستعصاء، تتوقّع مصادر متعددة ضربات إسرائيلية واسعة قد تطال حتى مرافق الدولة اللبنانية.
الإقليم: سوريا قلب التحوّل
يرى دبلوماسي عربي واسع الاطلاع أنّ المشهد اللبناني لا يمكن عزله عن السياق الإقليمي الأشمل، من طهران إلى غزة. ويعتبر أنّ الحرب التي دامت اثني عشر يومًا بين إيران وإسرائيل كان يجب أن تتوقف، لأن تداعياتها كانت ستتوسّع لولا تدخل أطراف إقليمية رئيسية ودولية أساسية، معتبرًا أنّ القصف الأميركي لمفاعل فوردو إنما جاء لإيقاف الحرب بقرار كبير ومنع تفاقمها.
ويركّز الدبلوماسي على التحوّل الحاسم الذي شهده الملف السوري، حيث مثّل سقوط نظام الأسد نقطة ارتكاز لاستعادة التوازن في المشرق، وضربًا لمحور الوصل الإيراني مع وكلائه. ويضيف: “في ظل وهن إيران وصعود إسرائيل كمصدر قلق إقليمي، بات لا بدّ من إرساء توازن معها، عبر تثبيت الاستقرار في سوريا، وتعزيز التنسيق مع تركيا، وإعادة بناء الثقة مع إيران، إلى جانب تقوية وحدة الصف العربي بقيادة السعودية، التي يرى فيها أغلب الفاعلين في العالم والإقليم أنها باتت تمثّل العمق العربي والإسلامي، وجسر تواصل مع الغرب أيضًا”.
ويختم بالقول إنّ إيران تحتاج اليوم، أكثر من أي وقت مضى، إلى مصالحة مع الخليج، وإلى اتفاق نووي مع الولايات المتحدة، وهو اتفاق يبدو في الأفق، وإن لم تتبلور معالمه بعد، حتى تتمكن من استعادة بناء قدراتها الاقتصادية والعسكرية والأمنية التي تضرّرت بشكل كبير نتيجة الحصار والعدوان الإسرائيلي.
نتنياهو، الحزب، والدولة: ثلاثي المأزق
في تقدير المصدر نفسه، فإنّ التهديد الأكبر للاستقرار لم يَعد إيران، بل شخص بنيامين نتنياهو، الذي يخوض حروبًا متتالية لأهداف داخلية. ويرى أن تثبيت النظام في سوريا يفتح الباب لاستقرار لبنان، ويعيد حزب الله إلى إطاره المحلي، لا سيّما وأن الحزب بات يدرك أنّ سلاحه، وإن كان في السابق مصدر قوة، فقد أصبح عبئًا متزايدًا على بيئته وعلى لبنان، وأن من شروط القوة الحفاظ الاستراتيجي على البيئة الحاضنة، ما يتطلّب التواضع والواقعية.
ومع ذلك، يشترط المصدر جدية التفاؤل بتحقيق إصلاحات فعلية في الداخل اللبناني، لأنّ المجتمع الدولي والعربي لا يبدو مستعدًّا لاستثمار فلسٍ واحد في دولة استنزفت كل مقدّراتها، من دون أي ضمانات للاسترجاع.، وقررت فيها القوى النافذة وعن سابق إصرار الاستمرار بذهنية المحاصصة والإفساد، بخلاف سوريا، التي بدأ العرب العمل فيها والاستثمار بأفق واسع وأهداف كبيرة، لأن النظام هناك لا يزال، حتى اليوم، بعيدًا عن شبهة الفساد، ويريد اثبات ذاته والسيطرة على الحكم على مساحة سوريا وهذا حقه.
نظرة متشائلة: حزب الله ومصير الدور
في منزلة بين التفاؤل والتشاؤم، تقف مراكز فكر ومراقبون، يحلّلون الواقع بعين متفحّصة. من بينهم باحث تركي يربط المشهد اللبناني بالسوري، ويرى في السياسة اللبنانية فنًّا في شراء الوقت، كما في الأمثلة اليومية لحياة الناس. يشرح بداية أنّ تركيا لا تهتم بلعب أي دور في لبنان، بل تكتفي بالقراءة في كتاب واحد مع المملكة العربية السعودية في سوريا، وتترك لها رسم ما تراه مناسبًا للبنان وحدها. ويقول بوضوح:
إنّ تركيا لا ترغب إطلاقًا بوجود لاعبين عسكريين من خارج الدولة في الإقليم، حتى لا يتحوّل النموذج اللبناني إلى نموذج كردي أو علوي أو درزي أو أقلي في أي مكان. ويؤكد أنّ تركيا كانت قد حذّرت مرارًا النظام السوري الجديد من خطورة تجاهل زعامة الشيخ الهجري في السويداء، لأن أيّ سوء تقدير قد يُشعل فتنة يصعب إطفاؤها. أمّا بالنسبة لإسرائيل، فيقول: “هي تريد أن تكون صاحبة اليد العليا، وهذا لن يحدث. قصف القصر الجمهوري السوري رسالة لتركيا، والرد سيكون دفاعيًا، لأن التوازن بيننا واضح، ومن يعتدي سيدفع الثمن”.
ويعود إلى لبنان ليؤكد أنّ إيران تسعى للانكفاء نحو الداخل والمصالحة مع جوارها، لكن حزب الله، كمؤسسة ضخمة، لا يستطيع ببساطة التخلّي عن سلاحه من دون حسابات متشعبة تشمل المتفرغين بعشرات الآلاف، وعوائل الشهداء والجرحى، والموظفين المدنيين في مؤسسات تربوية ومصرفية وخدمية كـ”القرض الحسن” و”جهاد البناء” والمدارس والجامعات والإذاعة والتلفزيون.
يقول الباحث إنّ البعض يطالب الحزب ليس فقط بنزع السلاح الذي يقلق إسرائيل، بل بحلّ بنيته بالكامل، وهو أمر لا يبدو واقعيًا. ومع أن ضربات موجعة قد تقع، فإنها ستُحسب حسابًا سياسيًا دقيقًا، يرتبط بما سيؤول إليه دور الحزب ووظيفته وموقعه التمثيلي في النظام. ويختم قائلًا: “من يظن أن حزب الله يذوب كفص ملح واهم، كما أنّ الدولة اللبنانية نفسها غير قادرة على استيعاب جزء بسيط من بنيته التنظيمية”.
من هنا، يدور الحوار الحقيقي –برأيه- حول وظيفة الحزب ودوره في اليوم التالي، لا حول ترسانته فقط. فالأثمان السياسية الداخلية اليوم، أكبر من أية أثمان عسكرية أو إقليمية.
على حافة مفترق لا يشبه ما سبقه
ليست المعضلة في لبنان اليوم مجرّد خلاف على سلاح أو خريطة طريق أميركية، بل هي اختبار لمدى قدرة الدولة على استعادة سيادتها، ومصير حزبٍ لطالما كان شريكًا في القرار، بل صاحب اليد العليا فيه، لكنه بات خارجًا عن الإجماع الوطني. في المقابل، لا تبدو إسرائيل في وارد التراجع، ولا إيران في موقع يسمح لها بالتصعيد.
في هذه اللحظة المُعلّقة، بين هدنة غير مكتملة وحرب لم تقع بعد، يجد لبنان نفسه أمام معادلة دقيقة: إما التقدّم بشجاعة نحو تسوية داخلية تُعيد تعريف دور حزب الله، وتنطلق بإصلاحات طال انتظارها، أو الانزلاق إلى مواجهة مدمّرة تُطيح بما تبقّى من دولة ومؤسسات.
القرار ليس في يد طرفٍ واحد، ولا في عاصمةٍ واحدة. لكن الوقت لا يرحم، ومن يعتقد أن شراء الوقت لا يزال ممكنًا، قد يكتشف قريبًا أنه اشترى الوهم بدل النجاة.