السريّة المصرفية والفوائد: رئة المصارف الحقيقيّة

السريّة المصرفية والفوائد: رئة المصارف الحقيقيّة

الكاتب: عماد الشدياق | المصدر: نداء الوطن
30 تموز 2025

على الرغم من مرور حوالى 6 سنوات على انفجار الأزمة الاقتصادية في لبنان، لا يزال القطاع المصرفي أسيرَ الشلل السياسي، من دون أن تلوح في الأفق بوادر تعافٍ حقيقيّة.

لا الدولة وضعت إصلاحاتها على السكّة، ولا الثقة عادت إلى النظام المصرفيّ، ولا حتى البيئة الاقتصادية تغيّرت بما يكفي لعودة الأمل. بل جلّ ما قامت به الحكومة حتى اليوم، أنّها عدّلت مادة وحيدة في قانون السريّة المصرفيّة، وتُنازع من أجل تمرير قانون هيكلة المصارف، على مضض. إذ تشير معلومات خاصة إلى أنّ مجموعة من النوّاب تتحضّر للطعن بهذا القانون أمام المجلس الدستوري، بعيد تمريره في الهيئة العامة بحجّة أنّ عملية ربطه بقانون آخر لم يبصر النور (قانون الفجوة الماليّة) هو أمر مخالف للقانون… وبذلك، تكون السلطة السياسية أفسدت ما تدّعي أنها أصلحته، من أجل الهروب من تحمّل مسؤوليّة الأزمة ورمي الحمل كلّه على القطاع المصرفيّ والمودعين.

نقطة البداية…

في هذا الصدد، يكشف لـ “نداء الوطن” مصدر مصرفي واسع الاطّلاع على ما تحوكه السلطة السياسية، عن صورة قاتمة تنتظر المصارف اللبنانية، إذا لم تبادر السلطة السياسة، فورًا، إلى إعادة رسم هوية اقتصادية جديدة للبلاد.

يقول المصدر: “من غير المجدي الحديث عن استعادة القطاع المصرفيّ عافيته في ظلّ الظروف الحالية. ببساطة، لا شيء يدعو المستثمر أو المودِع لإعادة أمواله إلى لبنان”، مشيرًا إلى أنّ النظام المصرفيّ، كما كان قبل الأزمة، “بات من الماضي”.

يتحدّث المصدر بلغة الأرقام الصريحة، فيقول: “قبل الأزمة، كنا نتعامل مع ودائع لامست 150 مليار دولار في مقابل ناتج محلي يصل إلى نحو 50 مليار دولار. أي أنّ الودائع كانت قرابة 3 أضعاف الناتج المحلي”.

أمّا اليوم، فقد انخفض الناتج بحسب المصدر إلى نحو 30 مليار دولار، بينما الودائع لا تزيد عن 5 مليارات في أحسن التقديرات. أي أنّ الودائع أقلّ من الناتج المحلي بـ 6 أضعاف، وهذا يشير إلى انقلاب مخيف في النِسب، يُظهر بوضوح أنّ القطاع يحتاج لسنوات طويلة ليكون قادرًا على أداء دوره التاريخي في دفع الاقتصاد الوطني مجدّدًا”.

ويرى المصدر أنّ مشكلتين جوهريتين تحولان اليوم دون جذب الرساميل إلى الداخل اللبناني مجدّدًا، وهما:

1. رفع السريّة المصرفية.

2. أفول حقبة الفوائد المرتفعة.

يضيف المصدر: “قبل الأزمة، كان المستثمرون يضعون أموالهم في لبنان لسببين رئيسيين: السريّة المصرفية التي تحمي حساباتهم، والفوائد المرتفعة التي تُغري بتحقيق عوائد جيّدة رغم المخاطر. اليوم، لا هذه ولا تلك قائمة”، ويتابع: “السريّة المصرفية كانت حجر الأساس الذي بنى عليه لبنان سمعته المالية لعقود. المواطن اللبناني في كندا أو في أوروبا أو حتى الخليج، وكذلك الأجنبي الذي يبحث عن ملاذ آمن، كان يجد في بيروت الوجهة المناسبة لإيداع أمواله. أما اليوم، فإنّ رفع هذه السريّة وتقييدها من دون بديل جذاب، أفرغ القطاع المصرفي من ميزة تنافسية أساسية”.

أمّا الفوائد، فكانت تشكّل “تعويضًا عن غياب الثقة السياسية والاقتصادية. لكن مع تراجعها، أصبح من الصعب إقناع أيّ مستثمر بخوض مغامرة في بيئة مسمومة سياسيًّا، لا توفّر الحدّ الأدنى من الضمانات ولا العوائد”. ويضيف: “لا يمكن للمصارف أن تعمل بمعزل عن الدولة. الإصلاح ليس شأنًا تقنيًا مصرفيًا، بل هو خيار سياسي واقتصادي شامل. القطاع المصرفي ينفّذ، يموّل، يواكب، لكنّه لا يبتكر السياسات ولا يرسم هوية البلد الاقتصادية”.

يشدّد المصدر على أنّ الدولة لم تبدأ بعد بأيّ إصلاح جديّ، موضحًا أنّ “الإصلاح الحقيقي يُفترض أن يبدأ من الإدارة العامة، من خلال: رقمنة الوزارات، وإلغاء الوظائف غير المجدية، وتحسين البنية التحتية، وتوفير الكهرباء والإنترنت… مع دفع حقيقي لاستقلالية القضاء. هذه هي الركائز إن توفّرت، يمكن في حينها الحديث عن إعادة الثقة وتحفيز الودائع”.

ويسأل: “ما الذي يدفع رجل أعمال لبنانيًا يعيش في دبي أو باريس إلى إعادة أمواله إلى مصرف لبناني اليوم؟ أين البيئة الجاذبة؟ فلا إطار تشريعيًّا مشجّع، ولا ضمانات على الأموال، ولا حتى استقرار يتيح لتخطيط طويل الأمد. حتى الاهتمام الرسمي منصبّ على تفاصيل أكثر من ثانوية، محصورة بإنجاز انتخابات بلدية أو اختيارية لا أكثر… وكأنّ السلطة لا تدرك حجم الكارثة”.

ويختم المصدر المصرفي حديثه بالقول: “القطاع المصرفي لن يستعيد مكانته ما لم تعلن الدولة، بوضوح، عن نموذج اقتصادي جديد، وتبدأ بتنفيذه فورًا. لا نحتاج إلى شعارات، بل إلى رؤية. ومن دونها، سيبقى الانكماش سيّد الموقف… فهل هذا ما تريده السلطة السياسية بالفعل؟”.

في المحصّلة، يمكن القول إنّ استعادة الثقة لا تنبع من شعارات الاستقرار، ولا من الإيهام باستقرار نقديّ هشّ، بل من “مشروع وطني” واضح، لا يزال غائبًا عن عقل الدولة وعن سلوك السلطة فيها. وحتى ذلك الحين، سيبقى القطاع المصرفي اللبناني في حال الانتظار… انتظار أمرٍ لا يبدو أنه قد يتحقّق قريبًا.