
من الترسيم إلى الكهرباء والإنترنت: تحالف هادئ بين لبنان وقبرص
تلوح في الأفق فرصة استراتيجية للبنان من خلال تعزيز علاقته مع قبرص، الدولة الجارة والعضو في الاتحاد الأوروبي، في ظل أزماته السياسية والاقتصادية المتصاعدة. وأعادت زيارة الرئيس جوزاف عون إلى نيقوسيا فتح ملفات حيوية أبرزها ترسيم الحدود البحرية والتعاون في الطاقة والربط الرقمي والكهربائي.
في زمن تتكاثر فيه أزمات لبنان السياسية والاقتصادية، يرى بعض اللبنانيين أن هناك فرصاً غير تقليدية تلوح في الأفق ويمكن للبنان استثمارها لتأمين مكاسب استراتيجية طال انتظارها. من بين هذه الفرص تبرز العلاقة مع جمهورية قبرص، تلك الجزيرة القريبة جغرافياً والبعيدة من الاستقطاب الإقليمي، والعضو الفاعل في الاتحاد الأوروبي.
فبين لبنان الباحث عن منفذ وقبرص الباحثة عن دور إقليمي فاعل، تولد معادلة جديدة توازن بين الاحتياج والقدرة، بين التاريخ والجغرافيا، بين المصالح المتبادلة والإرادة السياسية، وفي زمن تبدو فيه التحالفات خاضعة لحسابات النفوذ، تأتي العلاقة بين بيروت ونيقوسيا كتجربة “طبيعية” واستراتيجية، من دون أحلاف أو استقطابات، إنها ببساطة شراكة مصلحة، قائمة على الرؤية والفرصة، والأهم أنها “قابلة للتحقيق”.
فقبرص التي تبعد أقل من ساعة بالطائرة عن بيروت كثيراً ما شكلت ملاذاً للبنانيين في الأزمات وممراً لوجيستياً في حالات الحرب. ومع انتخاب الرئيس جوزاف عون بادرت نيقوسيا سريعاً إلى تأكيد دعمها للبنان، إذ كان الرئيس القبرصي نيكوس خريستودوليدس أول رئيس أوروبي يزور بيروت.
ويرى متخصصون استراتيجيون أن قبرص، باعتبارها عضواً في الاتحاد الأوروبي، تستطيع أداء دور جسر يربط لبنان بالمؤسسات الأوروبية، بخاصة في ملفات إعادة الإعمار والمساعدات الإنسانية. كذلك فإن تقاطع المواقف في كثير من الملفات الإقليمية والدولية، أبرزها ملف اللاجئين والهجرة غير الشرعية، يمنح هذا التنسيق بعداً إنسانياً وأمنياً يبنى عليه في المستقبل.
الترسيم البحري بين لبنان وقبرص
يعتبر ملف ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وقبرص نقطة تقاطع سياسية واقتصادية دقيقة. فبعد أن أنجزت الدولة اللبنانية ترسيم حدودها مع إسرائيل بات من الضروري حل الإشكالات العالقة مع قبرص، في ظل الحديث المتزايد عن ثروات واعدة في البلوكات النفطية اللبنانية المحاذية للمياه القبرصية.
في يناير (كانون الثاني) من عام 2007 توصلت الدولتان إلى اتفاق لتحديد الحدود البحرية بينهما ضمن المناطق الاقتصادية الخالصة باستخدام طريقة تقاطع المسافات، لكن البرلمان اللبناني لم يصدق عليه نتيجة اعتراضات تتعلق بتداخل محتمل مع الحدود اللبنانية -الإسرائيلية. أما اليوم، ومع انطلاق محادثات جديدة وودية، يرى متخصصون كثر أن الظروف نضجت لإتمام الترسيم، فيما الخلافات التقنية قابلة للحل باستخدام صور الأقمار الاصطناعية وتحت سقف اتفاق الأمم المتحدة لقانون البحار القائمة منذ عقود، مما يمنح عامل ثقة أساسياً لجذب شركات الطاقة العالمية التي لا تخاطر بالاستثمار في مناطق غير محددة السيادة.
وفي إطار تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين لبنان وقبرص، أعادت زيارة الرئيس اللبناني قبل نحو أسبوعين إلى نيقوسيا فتح ملف ترسيم الحدود البحرية بين البلدين، وهو ملف حيوي تتداخل فيه الأبعاد السياسية والقانونية والاقتصادية. وعلى رغم عدم توقيع اتفاق نهائي خلال الزيارة، فإن المحادثات التي أجريت أعادت تفعيل التنسيق الرسمي، وسط تأكيد المبعوث القبرصي تاسوس تزيونيس أنه “لا توجد مشكلة بين لبنان وقبرص لا يمكن حلها بسهولة”، مشيراً إلى أجواء ودية ومحادثات بناءة. وفي خطوة متابعة مباشرة، أرسل وفد قبرصي رسمي إلى بيروت لبدء التحضيرات التقنية، مما يعكس دينامية جديدة في هذا الملف.
الترسيم المرتقب يستند إلى “الخط 23” الذي اعتمده لبنان في اتفاقه مع إسرائيل، ويمتد قرابة 95 ميلاً بحرياً من الجنوب (النقطة 23) إلى الشمال (النقطة 7) المتداخلة مع المياه السورية، لكن العقبة الأساسية الأولى تكمن في عدم مصادقة البرلمان اللبناني على الاتفاق المبدئي المذكور سابقاً، بسبب تداخل محتمل مع المنطقة المتنازع عليها مع إسرائيل في حينه، كذلك توجد تداخلات طفيفة بين بلوكات النفط والغاز القبرصية واللبنانية، لا تتعدى كيلومترات محدودة، يمكن تسويتها عبر أدوات تقنية كالأقمار الاصطناعية ضمن اتفاق الأمم المتحدة لقانون البحار.
أما النقطة الثالثة من الملف فتتعلق بسوريا، إذ يشدد لبنان على ضرورة التنسيق معها في ما خص النقطة الشمالية الثلاثية، على رغم رفض دمشق المتكرر الانتظام في مفاوضات حتى الآن. في المقابل يطرح خيار إبرام اتفاق ثنائي مبدئي مع قبرص، يستكمل لاحقاً عندما تسمح الظروف باتفاق ثلاثي (مع سوريا). وإذا ما نفذ هذا السيناريو فإن ترسيم الحدود مع قبرص سيكون نقطة تحول استثمارية كبرى، تتيح للبنان معاودة استكشاف موارده البحرية وجذب الشركات الدولية بثقة أكبر.
الرئيس اللبناني يزور قبرص
خلال زيارة جوزاف عون إلى نيقوسيا فتحت ملفات شائكة وطموحة على طاولة البحث، من ترسيم الحدود البحرية وتطوير التعاون في الطاقة، إلى ربط البلدين كهربائياً ورقمياً، وصولاً إلى التكامل السياحي والمالي. في هذا السياق تبدو قبرص أكثر من مجرد “جار”، بل بوابة استراتيجية للبنان، وفرصة واقعية لهذا البلد العالق في دائرة العزلة والتعطيل، ويؤكد كثر أن الزيارة وضعت حجر الأساس لعلاقة ثنائية يمكن أن تتحول إلى شراكة طويلة الأمد تشمل الغاز والكهرباء والاتصالات والسياحة والاستثمارات والربط الثقافي.
وبالدخول في تفاصيل ما يمكن أن تتعاون عليه بيروت ونيقوسيا في ملف الكهرباء، تم البحث خلال الزيارة بمشروع تدرسه وزارة الطاقة اللبنانية، يتضمن إمكان مد كابل كهربائي بحري يربط الشبكة القبرصية بنظيرتها اللبنانية، لا سيما أن فكرة الربط الكهربائي ليست مستحيلة، بل تبنى على مشاريع قائمة بالفعل تربط قبرص بإسرائيل واليونان، وتستخدم فيها تقنيات حديثة.
والدراسات الأولية تشير إلى كلفة قد تصل إلى 750 مليون دولار لخط بقدرة 1500 ميغاواط، وهي استثمار كبير لكنه قابل للتنفيذ بدعم أوروبي أو عبر شراكات دولية، مما يمنح لبنان استقراراً جزئياً على مستوى الكهرباء، ويؤسس لتكامل شرق متوسطي في قطاع استراتيجي.
وأيضاً من الملفات التي لا تقل أهمية مشروع الربط البحري الرقمي بين لبنان وقبرص، وهو مشروع “كادموس 2″، الذي سيحل محل كابل “كادموس” القديم العائد لعام 1995، مما يعني عملياً تحسين جودة الإنترنت في لبنان وتعزيز الاستقرار الرقمي، إذ يأتي هذا المشروع بمثابة “ثورة صامتة” في حال تنفيذه.
وتناول البحث خلال زيارة عون، وفق أوساط متابعة، القطاع السياحي الذي كثيراً ما كان جسراً طبيعياً بين اللبنانيين والقبارصة، إذ في موسم الصيف وحده يتجاوز عدد المسافرين اللبنانيين إلى قبرص 100 ألف، بينما يسعى اللبنانيون إلى اجتذاب السياح الأوروبيين القادمين إلى قبرص من خلال برامج سياحية مشتركة.
وفي هذا السياق يدخل مباشرة مشروع إعادة إحياء خط النقل البحري بين مرفأ مدينة جونية الساحلية في لبنان ومدينة لارنكا في قبرص، الذي قد يبدأ العمل به خلال الصيف الحالي.
الرحلة التي تستغرق نحو أربع ساعات تمثل فرصة لخفض كلفة السفر وتشجيع الحركة الشعبية والسياحية، كما أنها توفر منفذاً بديلاً للبنانيين في حالات الطوارئ، كما حصل خريف 2023 حين تعطلت حركة الطيران إثر الحرب الأخيرة بين “حزب الله” وإسرائيل.
منظومة الاقتصاد الرقمي الإقليمي
ينظر الباحث في “الدولية للمعلومات” محمد شمس الدين إلى قبرص بوصفها “رئة إنعاش دبلوماسي” للبنان في مرحلة الانكفاء والعزلة، نظراً إلى موقعها الجغرافي المجاور، وعضويتها الكاملة في الاتحاد الأوروبي، ودورها كوسيط “ناعم” في ساحات التوتر شرق المتوسط.
ويضيف أن ملف ترسيم الحدود البحرية مع هذه الدولة مدخل أساس لإحياء ملف الغاز اللبناني المتوقف منذ أعوام، وهو ما يشكل بدوره شرطاً أساساً لأي نهوض اقتصادي فعلي. كذلك فإن طرح ربط لبنان بالكهرباء القبرصية عبر كابل بحري يمثل خطوة عملية للخروج من نفق أزمة الطاقة، تماماً كما أن تطوير الربط الرقمي يعكس توجهاً جدياً نحو الانتظام في منظومة الاقتصاد الرقمي الإقليمي، مشيراً إلى أن البعد الشعبي والاقتصادي مع ازدياد الاستثمارات اللبنانية في قبرص وتوسع الجالية هناك، يفتح المجال لبناء شراكة استراتيجية طويلة الأمد، وليست مجرد مبادرة ظرفية لاحتواء أزمة.
التحالفات “الهادئة” في مرحلة مشحونة
المحلل في معهد الشرق الأدنى والخليج للتحليل العسكري للدراسات الأمنية رياض قهوجي، يعتبر بدوره أن التعاون المتزايد بين لبنان وقبرص يكتسب دلالات مضاعفة في لحظة إقليمية مشحونة، إذ تشكل قبرص بوابة متقدمة للاتحاد الأوروبي في الجنوب، وركيزة لوجيستية في أوقات الأزمات، ويمكن لبيروت أن تستفيد من هذه الوظيفة في تحسين موقعها الاستراتيجي الإقليمي.
ويؤكد أن الرئيس اللبناني جاء في توقيت بالغ الحساسية، وسط احتدام الصراعات في المنطقة، والتصعيد الكلامي الأخير من قبل “حزب الله” تجاه قبرص على خلفية تقاربها مع إسرائيل. ويرى أن الانفتاح اللبناني على هذه الدولة لا ينفصل عن الاستراتيجية الغربية الأشمل في شرق المتوسط، التي تهدف إلى تثبيت الاستقرار ومنع انتقال التوترات إلى السواحل الأوروبية.
وفي هذا السياق يشكل تعزيز التعاون الأمني والدبلوماسي مع نيقوسيا خطوة استباقية لحماية المصالح اللبنانية، وتوفير غطاء إقليمي يحصن لبنان من التورط المباشر في النزاعات المفتوحة. وبحسب قهوجي، فإن هذا النوع من التحالفات “الهادئة” مع دول ذات سياسة خارجية متزنة كقبرص، يعزز حضور الدولة اللبنانية كطرف شريك في منظومة الأمن البحري والاقتصادي للمنطقة، من دون أن يكون ذلك على حساب علاقاته المتوازنة مع بقية القوى.
ثلاث ركائز مترابطة بين الدولتين
أما أمين سر مجلس الطاقة العالمي في لبنان المهندس بيار خوري، فينظر إلى مشروع ربط لبنان كهربائياً بقبرص عبر كابل بحري ليس مجرد فكرة تقنية عابرة، بل خطوة باتجاه تحقيق “حلم ثلاثي” صاغه منذ أكثر من عامين، ويقوم على ثلاث ركائز مترابطة: التبادل الكهربائي والتعاون في مجال الغاز الطبيعي، وفتح أفق جديد لحركة المواصلات، ولو على مستوى “الخيال العلمي” كما وصفه. ويقول خوري إن الكابل الكهربائي العابر للبحر بين بيروت ونيقوسيا يشكل اليوم ترجمة ملموسة لأول عناصر هذا الحلم، إذ لا يربط فقط بين بلدين متجاورين، بل يدمج لبنان في شبكة الطاقة الأوروبية عبر قبرص التي باتت نقطة محورية في ربط الكهرباء النظيفة مع اليونان وإسرائيل ومصر. وبرأيه، فإن بقاء لبنان خارج هذه المنظومة يعمق عزله ويحوله إلى جزيرة منعزلة في قلب المتوسط.
يشدد خوري على أن الشراكة مع قبرص في قطاع الطاقة ليست مجرد خيار، بل ضرورة استراتيجية لحماية ما يسميه “أمن الإمداد”، بخاصة أن لبنان يعتمد حالياً على مصادر محدودة وضعيفة كالكهرباء السورية أو الإنتاج المحلي القائم على محروقات ملوثة. ويذكر بتجربة عام 2010 حين أوصل الغاز المصري إلى معمل دير عمار الواقع شمال لبنان عبر سوريا، مما وفر نحو 300 مليون دولار سنوياً، قبل أن تتراجع مصر نفسها عن التصدير بفعل حاجتها الداخلية المتزايدة. لذا فإن ربط لبنان بمصادر متنوعة للطاقة، من الشرق العربي إلى الغرب القبرصي، هو تأمين للحد الأدنى من الاستقرار الكهربائي الذي بات حاجة وطنية.
كما يلفت خوري إلى أن أزمة شح المياه الأخيرة أثرت بصورة حادة على إنتاج الطاقة الكهرومائية، إذ تراجعت قدرة المعامل إلى أقل من 10 في المئة من طاقتها الأصلية. أمام هذا الواقع يؤكد أن لبنان بات مجبراً على التوجه نحو الطاقة الشمسية، لا سيما أن الإنتاج الحالي من الطاقات المتجددة فاق عتبة الـ1000 ميغاواط، وإن كان لا يزال يعمل بمعزل عن الشبكة الوطنية. ويدعو إلى الإسراع في ربط هذه الشبكات بعضها ببعض، وصولاً إلى تحقيق هدف وطني يتمثل بإنتاج 45 في المئة من الكهرباء من مصادر متجددة بحلول عام 2030، وهو ما يمكن أن يفتح الباب ليس فقط للاكتفاء الذاتي، بل للتحول إلى مصدر للطاقة نحو دول أخرى، من بينها سوريا.
ويختم خوري بتأكيد أن الربط مع قبرص ليس مشروعاً هندسياً فحسب، بل مشروع “هوية” و”بقاء”، يتيح للبنان أن يتنفس اقتصادياً وبيئياً من خلال شريك لا يحمل أطماعاً سياسية، بل يمكن أن يكون جسراً آمناً نحو أوروبا في زمن الانهيارات المتتالية.