
الجيش في عيده: تحديات أمنية تحاصره وتجاذبات سياسية تُقيده
ثمانون عامًا مضت على تأسيس الجيش اللبناني، تحوّل خلالها من مؤسسة ناشئة إلى العمود الفقري للسيادة والاستقرار والسلم الأهلي في لبنان. غير أن هذه الذكرى تحلّ في ظروف بالغة التعقيد، داخليًا وخارجيًا، تُحاصر المؤسسة العسكرية بسلسلة متشابكة من التحديات تبدأ من الجنوب ولا تنتهي عند حدود البقاع والشمال، مرورًا بأعباء الداخل المتشظي سياسيًا وأمنيًا واقتصاديًا، وتهديدات متفجرة متجددة على الحدود.
القرار 1701… ومأزق نزع السلاح
في الجنوب، يواصل الجيش اللبناني أداء مهمته ضمن إطار القرار الدولي 1701، الهادف إلى بسط سلطة الدولة جنوب الليطاني ومنع أي نشاط مسلح غير شرعي. وقد تمكّن، خلال الأشهر الماضية، من تسلّم ونزع سلاح تابع لحزب الله وتفكيك قواعد عسكرية في أكثر من 500 موقع جنوب الليطاني. غير أن هذا الجهد، على أهميته، لا يُرضي بعض العواصم الغربية، وفي مقدمتها واشنطن، التي تعتبر أن الجيش لم يُنجز كامل التزاماته، لا سيّما لجهة التحقق من المواقع شمال الليطاني، وهي مهمة تقع نظريًا ضمن اختصاص لجنة وقف إطلاق النار التي يرأسها جنرال أميركي.
وفي هذا السياق، أثار كلام السفير الأميركي الجديد في لبنان، ميشال عيسى، عند تعيينه، العديد من علامات الاستفهام والتوجس بسبب موقفه الحازم إزاء ضرورة نزع سلاح حزب الله. فإلى جانب رفضه القاطع لـ”ورقة الرئيس نبيه بري”، واعتبارها محاولة مكشوفة لشراء الوقت، وجّه عيسى رسالة مباشرة إلى قائد الجيش، العماد رودولف هيكل، داعيًا إلى وقف “أي تعاون مع حزب الله”، ومهددًا بأن استمرار ما وصفه بـ”التواطؤ” قد يؤدي إلى إدراج المؤسسة العسكرية على لائحة العقوبات الأميركية. وقال صراحة: “لقد زوّدنا الجيش اللبناني بالسلاح من دون مقابل لحمايته من الإرهاب، لا للتعاون معه.”
كلام يعكس النظرة الأميركية للبنان، وللسقف الذي تريده لعلاقتها بجيشه، في حال لم يواصل مهمته في “نزع السلاح، ليس فقط جنوب الليطاني، إنما على كامل الأراضي اللبنانية.” كما أنها رسالة مكملة لما سبق أن أعلنه الموفد الأميركي، توم براك، بعد زيارته الثالثة إلى لبنان، ورفضه الاقتراح اللبناني بذريعة أن الإدارة الأميركية لا تريد مجرد كلمات، بل أفعالًا.
اليونيفيل: المساعد يحتاج لمساعدة
يواجه الجيش اللبناني المزيد من التحديات في الجنوب، ليس فقط على مستوى استكمال مهمته في جعل جنوب الليطاني منزوع السلاح، لا سيما في المناطق التي تحتلها إسرائيل، بل أيضًا في مواكبة ما تواجهه قوات “اليونيفيل” وسط تكرار حوادث تعرّض جمهور حزب الله لدورياتها وعناصرها، وتراجع مستوى التنسيق أحيانًا مع الجيش اللبناني. وتتعاظم هنا مخاوف المؤسسة العسكرية من احتمال خفض عديد القوات الدولية أو تقليص تمويلها، بل حتى عدم التجديد لمهمتها، ما يُنذر بإرباك إضافي في المشهد الأمني الجنوبي. وبينما يُفترض أن تلعب هذه القوات دورًا داعمًا للجيش اللبناني، يعكس الواقع الميداني مشهدًا معكوسًا، إذ بات الجيش اللبناني يضطلع بدور الحامي للمراقبين الدوليين، ما يثقل كاهله بمهمات إضافية في منطقة متوترة بطبيعتها.
على الحدود الشمالية: إنذار أمني جديد
في خضم هذه التحديات، سُجّل توتر أمني جديد على الحدود اللبنانية – السورية، من جهة العريضة، حيث تعرّضت دورية تابعة للجيش اللبناني لإطلاق نار مصدره الأراضي السورية، ما استدعى ردًا مباشرًا من الجيش على مصادر النيران، وسط استنفار ميداني لافت. وقد دفعت الواقعة بقيادة الجيش إلى إرسال تعزيزات نحو المعبر، في خطوة عكست دقة الوضع الحدودي شمالًا، وتحول بعض المعابر غير الشرعية إلى ممرات تنشط فيها مجموعات مسلحة عبر الحدود، ما يضع المؤسسة العسكرية أمام تهديد متكرر، يتجاوز عمليات التهريب.
شرقًا وشمالًا، تتواصل التحديات الأمنية على وقع واقع سوري متفكك، وحدود مفتوحة على احتمالات شتى. يواجه الجيش شبكات تهريب نشطة للأسلحة والمخدرات والبشر، وسط جهود حثيثة لإحكام السيطرة على المعابر غير الشرعية ومواجهة مجموعات مسلحة سورية تحاول العبث بأمن الحدود. ورغم وجود تنسيق أمني بين الجيش اللبناني وقوات الأمن السورية، برعاية سعودية، عبر مكتب التنسيق الأمني، لم يُفضِ هذا التعاون بعد إلى إغلاق الثغرات بالكامل. ويُضاف إلى ذلك خطر الخلايا الإرهابية النائمة التابعة لداعش، التي تحاول استغلال أي فراغ أو تراخٍ أمني، في وقت يعاني فيه الجيش من نقص في العديد، وارتفاع وتيرة المهمات الميدانية، ما يضاعف من الأعباء على الوحدات العاملة في الداخل أيضًا.
الحاجات كثيرة
رغم الإنجازات في تعزيز العديد جنوبًا، تبقى الحاجة قائمة إلى رفع الجهوزية، لا سيّما في المناطق الحدودية المتوترة. ومع استمرار الأزمة الاقتصادية الخانقة، تزداد صعوبة تأمين التسليح النوعي، إذ تعتمد المؤسسة بنسبة 90% من تجهيزاتها على مساعدات أميركية. غير أن الأصوات الأميركية المشككة بدأت تتعالى، مطالبة بتقليص هذا الدعم، بذريعة أن الجيش لا يُظهر حسمًا كافيًا في مناطق مثل شمال الليطاني، حيث لا يزال السلاح غير الشرعي، لاسيما سلاح حزب الله، خارج السيطرة.
أما على صعيد الدعم الاجتماعي، فقد أسهمت بعض الدول في التخفيف من وطأة الأزمة على الجنود. فمبادرة قطر بمنح 150 دولارًا شهريًا لكل عسكري لبناني، والتي تجدّدت هذا العام، تُعد لفتة رمزية، لكنها لا تمسّ جوهر الأزمة البنيوية التي تطال الرواتب والبنية التحتية اللوجستية.
في الذكرى الثمانين…
في الذكرى الثمانين لتأسيسه، يقف الجيش اللبناني أمام مشهد بالغ الدقة، تُثقل كاهله المهام، وتُكبّله الانقسامات الداخلية والخارجية. من تنفيذ القرار 1701، مرورًا بضبط الحدود ومكافحة الإرهاب، إلى مواجهة الضغوط السياسية والمالية الدولية، يُطلب من المؤسسة ما يفوق قدراتها الحالية، فيما يغيب التوافق الداخلي حول دورها وموقعها.
تهديدات السفير الأميركي ميشال عيسى لا تُنذر فقط بتوتر في العلاقة مع أبرز داعمي الجيش، بل تكشف عن رغبة خارجية في فرض أجندات تتجاوز قدرات المؤسسة وتتناقض مع واقعها. وفي المقابل، لا يزال البعض في الداخل يصرّ على استنزاف الجيش في معارك لا شأن له بها، ووضعه في مواجهة أوسع مع حزب الله. مع العلم أن الأخير يدرك أنه لا يمكنه الاستمرار في رفض تسليم سلاحه إلى ما لا نهاية، وأن حصر السلاح بيد السلطات الشرعية، لا سيّما الجيش اللبناني، هو أمر لا رجوع عنه، بقرار يتجاوز قدرة أي سلطة في لبنان على معارضته.
إن ما يحتاجه الجيش اليوم، قبل السلاح والدعم، هو رؤية وطنية جامعة تُخرجه من حقل الألغام السياسي، وتكرّسه ضامنًا وحيدًا للسيادة والاستقرار، لا أداة في يد هذا الفريق أو ذاك. ففي زمن التشظي والانهيارات، يبقى الجيش اللبناني العين الساهرة… مهما حاولت حسابات السياسة تكبيله.