
من قصص الحرب اللبنانية: ثلاثة رهبان خطفتهم “الصاعقة”: سُجِنوا في بئرٍ ونَجوا من الموت
هم الآباء مرتينوس فهد وأفرام سلامة وأنطوان شالوحي من الرهبنة اللبنانية المارونية. غادروا لبنان مطلع الأسبوع الأخير من شهر آب 1975 متوجّهين في رحلة إلى تركيا في سيارة “بيجو 504” بيضاء اللون تخصّ المدرسة المركزية في جونيه التي يخدمون فيها، ورافقهم في رحلتهم شقيق الأب مرتينوس فهد المتوجّه مع زوجته برًّا إلى فرنسا حيث يقيم ويعمل.
وكانوا قبل مغادرتهم لبنان، طلبوا الإذن بإكمال رحلتهم إلى أوروبا، لكنهم تبلّغوا بضرورة العودة من تركيا.
وصل الرهبان إلى تركيا وزاروا معالمها الأثرية، وفي اسطنبول ودّعوا شقيق الأب فهد الذي أكمل إلى فرنسا وباشروا رحلة العودة إلى لبنان.
قرابة ظهر الجمعة 5 أيلول، دخلوا الحدود اللبنانية عند نقطة العريضة في عكار في طريقهم إلى جونيه، وعلى بعد نحو 3 كيلومترات من الحدود، أوقفهم حاجز مسلّح ولم يكن الرهبان يلبسون جبّتهم الرهبانية بل ثيابًا سوداء لأنه ممنوع في تركيا لبس الثوب الرهباني، سألوهم عن وجهتهم وسمحوا لهم بمتابعة الطريق.
بعد مغادرتهم الحاجز، شعر الرهبان بأنّ الوضع غير مستقرّ ودرسوا إمكانية العودة إلى الأراضي السورية، لكنهم قرّروا التوجّه إلى دير مار جرجس في دير جنين، ولدى وصولهم إلى مفرق دير جنين، قرّروا إكمال طريقهم إلى جونيه خاصة أنهم لم يسمعوا عبر الراديو عن أي مشاكل في طرابلس.
وصلوا إلى المنيه فشعروا أن الوضع مقلق والطريق شبه خالية. وخلال عبورهم البلدة، التقوا شابًا يقف على الطريق فسألوه عن الوضع في طرابلس، فأخبرهم أنّ الوضع هناك متوتّر جدًّا والمدينة مقفلة ونصحهم بعدم إكمال الطريق. قرّر الرهبان التوجّه إلى دير عشاش عن طريق بلدة حيلان البعيدة نسبيًّا من طرابلس.
ما كادوا يغادرون المنيه صعودًا إلى دير عشاش، حتى تبعتهم سيارة مدنية بداخلها مسلحون أوقفوهم، ثم نقلوهم إلى مبنى مدرسة قريب حيث كان يتواجد قرابة 20 مسلحًا، راحوا يكيلون لهم الشتائم ويهدّدونهم بالقتل: هنا شعر الرهبان بقرب النهاية، خاصة أنّ المسلّحين كانوا في حالة من الغضب الشديد.
بعد قليل، وصل شخص يرتدي بزّة عسكرية كبزّة الجيش اللبناني، ويبدو أنه كان صاحب موقع متقدّم بينهم، فطلب من الرهبان الصعود إلى السيارة وجلس خلف المقود وقال للمسلحين إنه متوجّه إلى الجبل لقتلهم.
هال الرهبان ما سمعوه وحاولوا التحدّث معه، فلم يردّ عليهم إلّا بكلمة: لا تخافوا، وانطلق مسرعًا بالسيارة.
بعد قليل، سأل الشاب الرهبان عن وجهتهم، فأخبروه أنهم متوجّهون إلى دير عشاش، فأبلغهم أنه سيوصلهم إلى الدير، لكن قبل موقع الدير بمسافة قليلة أوقف السيارة وكان الدير يظهر بوضوح أمامهم، وأخبر الرهبان أنه يستحيل التقدّم نحوه، وأبلغهم أنه سيوصلهم إلى مرياطة ويسلّمهم إلى شخص ينقلهم إلى زغرتا.
ما كاد يحاول الانطلاق مجدّدًا، حتى قَطعت عليه الطريق سيارتان مدنيتان نزل منهما عدد من المسلّحين اتهموا الشاب بتهريب الرهبان، وطلبوا منه العودة: يبدو أنه كان صاحب موقع متقدّم بين المسلّحين، فكان الكلام معه بهدوء، ولكن هناك من هو أعلى منه رتبة. فقاد سيارة البيجو تتقدّمه سيارة وتتبعه السيارة الثانية.
بعد قليل، وصلوا إلى مخيم البداوي وكان الليل قد حلّ وأنزل الرهبان في باحة مدرسة، ثم أدخلوا إلى غرفة حيث مكثوا لبعض الوقت في انتظار أن يحين دورهم للتحقيق كما أبلغهم أحد المسلّحين.
أثناء انتظارهم، عرف الرهبان من الصور والملصقات أنهم لدى “منظمة الصاعقة” الفلسطينية، ثم أدخلوا إلى المحقق الذي أمرهم بنزع كل ما في أيديهم من خواتم وساعات وتسليمه ما يحملون من أموال، وبدأ التحقيق معهم جماعيًّا حول دورهم ودور الرهبنة المارونية في تمويل ميليشيات الأحزاب المسيحية مكيلًا الشتائم للرئيسين كميل شمعون وسليمان فرنجية والشيخ بيار الجميل.
خلال التحقيق، تمّ إحضار جميع الأوراق والدفاتر من السيارة وكان من بينها مفكّرة للأب شالوحي فيها أرقام هواتف، وصودف أن كان بين الأرقام رقم لأحد الأشخاص من آل معوّض، فوجّه المحقق التهمة للرهبان بتمويل ميليشات زغرتا.
حاول الأب شالوحي أن يشرح أنّ صاحب الرقم هو والد أحد الطلاب في المدرسة المركزية في جونيه التي يتسلّم إدارتها وهو من منطقة كسروان وليس من زغرتا، لكن من دون جدوى، فالتهمة على الرهبان أصبحت واضحة: العمل على تمويل جبهة زغرتا.
بعد ساعات من التحقيق خرج المحقق من الغرفة، وبعد قليل دخل عدد من المسلحين وعصبوا أعين الرهبان وساقوهم إلى خارج المدرسة ثم طلبوا من كل راهب إنزال رجله في حفرة ووضعها على درجة سلم والنزول عليه.
نزل الرهبان تباعًا على درجات السلم ثم نزعوا العصبة عن أعينهم فتبيّن أنهم أصبحوا في بئر ماء شبه جاف، حيث المياه بعلو حوالى 10 – 15 سنتيمترًا.
وقف الرهبان في المياه وسمعوا أحد المسلحين يقول لهم إنهم لن يخرجوا من البئر ما لم يعترفوا بالعمل على تمويل جبهة زغرتا في مواجهة القوى الوطنية وأقفل فوهة البئر.
راح الرهبان ينظرون من حولهم وكان الضوء الخفيف يصل إليهم من فتحات في أعلى البئر: ماذا سيفعلون وكيف سيقضون وقتهم؟
بدأوا يبحثون في جوانب البئر فوجدوا عدة أحجار خفان ومقعدًا قديمًا مكسّرًا فوضعوا الأحجار والمقعد قرب بعضها البعض بجانب الحائط وجلسوا عليها وحاولوا أن يغفوا قليلًا، لكن من أين يأتيهم النوم؟
صباح اليوم التالي، فتح أحد المسلحين فوهة البئر وطلب من أحدهم الصعود لاستلام الطعام المؤلف من رغيف خبز وصحن برغل لكلّ راهب.
استلم الرهبان طعامهم وتابعوا نهارهم جالسين على أحجار الخفان.
هنا واجهتهم مشكلة جديدة: أين يقضون حاجتهم؟ الحلّ الوحيد في زاوية من البئر، وبعد ساعات قليلة أصبحت الروائح داخل البئر شبه المقفل لا تطاق.
في اليوم التالي، وخلال استلامهم الطعام، طلب الرهبان من المسلّح إعطاءهم علبة دخان. وبعد استلامهم العلبة قرّروا إبقاء السجائر مشتعلة على مدار 24 ساعة لتغطي رائحة الدخان الروائح الأخرى، وهكذا ظلت السجائر مشتعلة على مدار الساعة حيث كان يبقى أحدهم ساهرًا يشعل السجائر.
كيف قضى الرهبان أيامهم في البئر؟
معظم الوقت قضوه في الصلاة، ويخبرون أنهم لم يصلّوا ولن يصلّوا في حياتهم كما صلّوا وهم داخل البئر، لا يعرفون مصيرهم.
في اليوم السابع لوجودهم داخل البئر، فتح أحد المسلحين الفوهة وطلب منهم الصعود، حيث عصبت أعينهم مجدّدًا ونقل كلّ راهب في سيارة، وبعد ربع ساعة تقريبًا أنزلوا من السيارات وأدخلوا إلى غرفة ونزعت العصبة عن أعينهم فتبيّن لهم أنهم أصبحوا محتجزين في غرفة فيها عدة فرش اسفنج وحمام صغير.
في هذه الغرفة، عاد الرهبان إلى الحياة تقريبًا، خاصة أنهم وجدوا في الحمام بعض الصحف والمجلات لاستعمالها عند قضاء الحاجة، فالتهموا قراءتها وهم المنقطعون عن العالم منذ أسبوع.
من خلال هذه الصحف، علموا بوفاة المطران أنطون عبد وبمذبحة دير عشاش والتطوّرات في البلد.
هنا، راح الرهبان يبتهلون إلى اللّه ألا يقوم المسيحيون بالردّ على مذبحة دير عشاش فيتمّ الانتقام منهم.
بقي الرهبان الثلاثة في هذه الغرفة 4 أيام، وكانت صلة وصلهم الوحيدة بالعالم الخارجي هي الصحف التي تصلهم أعدادها المتأخرة يومين أو ثلاثة.
ذات يوم، دخل أحد المسلّحين وطلب منهم مرافقته فخرجوا من الغرفة من دون أن تعصب أعينهم، وساروا خلفه إلى داخل مبنى حيث تنتشر أمامه مجموعات من المسلحين: هنا علم الرهبان أنهم في مخيم نهر البارد.
أدخل الرهبان إلى غرفة حيث يتواجد 3 أشخاص رحّب أحدهم بقدومهم وأجلسهم على كراسٍ وقدّمت لهم المرطبات، وراح يسألهم عن انتماءاتهم السياسية ولمن يقترعون في الانتخابات النيابية؟ حاولوا أن يشرحوا له أن لا علاقة لهم بالسياسة والسياسيين وهم رجال دين يخضعون للسلطة الكنسية.
ابتسم المحقق وأشار إلى أحد الجالسين في الغرفة وقال لهم إنه الأستاذ عبد الله الشهال وسينقلهم الآن إلى حيث يريدون، وسلّمهم أغراضهم ومفاتيح سيارتهم.
غادر الرهبان مخيم نهر البارد برفقة الأستاذ عبد الله الشهال إلى منزله في محلة أبو سمرا في طرابلس، حيث أدخلهم إلى غرفة يوجد فيها حمام وطلب منهم الاغتسال وحلق ذقونهم.
كان منظرهم مخيفًا، فهم منذ أكثر من 11 يومًا لم يحلقوا ذقونهم أو يغتسلوا أو يبدّلوا ثيابهم، فاغتسلوا وحلقوا ذقونهم وقُدّمت إليهم ثياب جديدة، وأدخلوا إلى الصالون وهناك شاهدوا النائب الياس الخازن الذي رحّب بهم وأبلغهم أنه حضر بتكليف من البطريرك خريش لمرافقتهم إلى جونيه.
دخل الصحافيون وراحوا يلتقطون الصور ويسألونهم عن فترة احتجازهم، وكان عبد الله الشهال طلب منهم أن لا يقسوا بكلامهم. فأبلغ الرهبان الصحافيين أنهم عوملوا معاملة جيدة كما تقتضي أصول الضيافة العربية.
غادروا طرابلس إلى منزل النائب الياس الخازن في عجلتون وكان الأباتي شربل قسيس وعدد من الرهبان في انتظارهم، ولم يدعهم النائب الخازن يغادرون قبل تناول العشاء، ثم انتقلوا إلى الكسليك وهناك كان جمهور من الرهبان وأهلهم بانتظارهم.
كيف عرفت الرهبنة اللبنانية والمسؤولون بمصير الرهبان الثلاثة؟
لم تمرّ ساعات على توقيف الرهبان، حتى زار أحد ضباط الشعبة الثانية في الجيش اللبناني الأباتي شربل قسيس وأخبره بالمعلومات المتوفرة لديهم ويمكن اختصارها بما يلي: الشخص الذي قاد سيارة الرهبان من مخيم البداوي إلى دير عشاش وهو أحد رجال الشعبة الثانية من عكار كان مكلفًا بمراقبة منظمة “الصاعقة” في مخيم البداوي، وأبلغ قيادته أنه ظل يتابع أخبار الرهبان حتى إنزالهم في بئر مدرسة مخيم البداوي، ومن هناك انقطعت أخبارهم عنه ويعتقد أنه تمّت تصفيتهم.
بعد تلقيه هذه المعلومات، تواصل الأباتي قسيس مع البطريرك خريش طالبًا تدخله لمعرفة مصير الرهبان.
جرى تواصل بين بكركي وياسر عرفات، الذي كلف أبو حسن سلامة متابعة الموضوع، وبعد ساعات تمّ إبلاغ بكركي أنّ الرهبان ما زالوا على قيد الحياة في مركز منظمة “الصاعقة” في مخيم البداوي.
بعد حصوله على هذه المعلومات، اتصل البطريرك خريش بالأستاذ جان عبيد طالبًا تدخله لدى “الصاعقة” لإطلاق سراحهم.
حاولت المنظمة إنكار وجود الرهبان لديها، لكنّ المعلومات الإضافية التي قدّمها جهاز أمن “منظمة التحرير الفلسطينية” أكدت بما لا يقبل الشك وجود الرهبان على قيد الحياة وتحديد موقعهم في المخيّم بدقة.
في اليوم الذي أخرج فيه الرهبان من البئر إلى غرفة أخرى كانت الاتصالات بدأت لإطلاق سراحهم.
كثّف جان عبيد اتصالاته، وبعد أيام اتصل بالبطريرك خريش طالبًا إرسال أحد ما لاستلام الرهبان من منزل عبد الله الشهال في طرابلس، فكلف البطريرك خريش النائب الياس الخازن التوجّه لاستلام الرهبان ومرافقتهم إلى جونيه.