
خامس “4 آب” يحلّ وبيروت تنتظر: فخامته وعد والقرار الظنّي أنجز… العدالة آتية؟
وكأنه مكتوبٌ علينا أن نعدّ الأيام، مستخدمين كل أدوات الضرب والجمع والقسمة، ونحن ننتظر عند قارعة الملفات السميكة، الدسمة، المطوية، التي هناك مَن يريدها أن تبقى لغزًا، في حين أن الصالحين لا يريدون -في كل الملفات- إلّا عدالة حقيقية موقّعة بقلم حبرٍ سميك تعلن “أن الباطل لا يصير حقًّا بمرور الزمن”.
غريبٌ حقًّا هو أمر بيروت. فيها قوة هائلة وفيها جاذبية لافتة لكن فيها، أيضًا وأيضًا، ما يُشبه اللعنة التي تلاحقها، وهي التي هُدمت، وتزلزلت الأرض من تحتها، مرّات ومرّات، لكنّها عادت تتنفس من جديد. إنّها المدينة التي قال عنها نزار قباني: “الحبّ في بيروت مثل الله في كلِّ مكان”. وكم هي بيروت بحاجة اليوم الى حبٍّ لن يرى النور بلا عدالة؟
مع دنوّ الرابع من آب، نجول في الأرجاء، في المرفأ والجميزة والدورة والجعيتاوي والكرنتينا… القلب يدقّ دائما في كلِّ مرّةٍ نمرّ فيها قرب مرفأ بيروت ونقرأ: “دولتنا فعلت هذا”. مبانٍ كثيرة رُمّمَت. ومبانٍ تستمرّ شهيدةً وشاهدةً على مجزرة العصر. نمرّ الى جانب فوج إطفاء بيروت. نتذكر ابتسامة سحر فارس ونظرة رالف ملاحي وحماسة جو نون والأمل في عيون أبناء قرطبا شربل وشربل ونجيب… نتذكر كل الشباب -العناصر الذين هرعوا – بعلم الدولة- لإطفاء حريق ذاك الغروب. يا الله. خمسة أعوام مرّت وما زال الفعلةُ – الذين سهلوا وجود النيترات أو تغاضوا أو استسخفوا أو أهملوا- أحرارًا. خمسة أعوام ولا عدالة.
نمرّ بجانب مرآب بلدية بيروت. نعبر جنب قيادة فوج المدفعية. ندخل الى حرم مستشفى الكرنتينا. ثمّة أعمال لا تزال تُنجز من أجل محو آثار ما حصل والبناء للمستقبل. لكن، أي مستقبل هذا لوطنٍ بلا عدالة؟ المنطقة المسمّاة: المنطقة الخضراء تبدو يباسًا. وستبقى ما دامت القلوب تستمرّ مُشَلَّعَةً. محال كثيرة مُغلقة. أعمال التشييد كلّها جرت بالتعاون مع الدولة الألمانية. هنا تمّ بناء شبكة أرصفة للمشاة بالتعاون مع الألمان. كل أعمال “قيامة” العاصمة جرت من أموال بلاد الناس.
لكن، ماذا فعلت دولتنا؟ نمر في شارع جوزيف روفايل وفي شارع ابراهيم باشا وجانب قيادة فوج التدخل الخامس. نتمعّن للمرة الألف ربّما في وجوه ضحايا الانفجار المرسومة على الجدار الفاصل بين أوتوستراد الكرنتينا وحرم مرفأ بيروت. نراقب ونتأثّر. نتذكّر وجه والدة الضحية أحمد قعدان وحيد والدَيْه. هو كان لهما السند والابن والروح. نتذكّر ابتسامة وبراءة ألكسندرا. نتمنى في قرارة أنفسنا لو كان للحزن أجنحة تساعد على أن يطير بعيدًا مع مرور الزمن. نتذكّر وجه الياس الخوري فنتأكّد أنّنا لن ننسى ولن نسامح. بيروت يا عالم ستستمر ملتحفةً بالسواد إلى حين انبلاج فجر العدالة. فلا يراهنَنَّ أحد على مرور الزمن لننسى!.
نقرأ لافتةً: بتمويلٍ من “الوكالة الأميركية للتنمية الدولية” تمّ تصليح وتأهيل الإنارة في الشوارع المتضرّرة. هكذا هي دولتنا مهملة بحقّ ناسها وتتركهم لقدرهم ولمعونة الخارج. الطريق أمام “شي بول” (Chez Paul) مقفلة. ثمّة أعمال لإعادة رصّ الطريق “المُقَبَّعة”. لكن، لماذا قُبِّعت أرصفة الطريق؟ مَن نحاسِب؟ الملتزم أم الدولة الغافلة؟ أسواق بيروت لم تستعِدْ حياتها كاملة بعد. منطقة الجمّيزة لم تعد الى رونقها بعد. ثمّة غصّة في العيون تستمرّ. كم هي مؤلمة تلك الغصة، المقرونة بدمعةٍ تسقط من شدّة القهر والألم. نمرّ الى جانب البرلمان الذي يتحصّن في قلب بيروت من خلال حاجزَيْن يقطعان طريق الحياة عن مطاعم ومقاهي قلب العاصمة.
“أبكيكِ يا بيروت”، عبارة كُتبت حديثًا على علبة كهرباء. خربشات على كلّ الجدران تزيد يومًا بعد يوم وسنةً بعد سنة. فيها الكثير والكثير من الوجع لكن لا استسلام “No Trust”. لا ثقة. عبارة أخرى لا تزال مطبوعةً على جدران العاصمة. إنّه الظهر. إنّه آب. إنّها أول أيام آب. الحرارة مرتفعة جدًّا. محال كثيرة معروضة للإيجار أو البيع. شركة الكهرباء تستمرّ، للسنة الخامسة، مُشَلَّعةً. والركام يحوطها. لم تستعد حياتها بعد.
ماريانا، رئيسة جمعية أهالي ضحايا انفجار بيروت -شقيقة الضحية غايا فودليان- تنشغل في هذه الايام استعدادًا لـ”4 آب” خامس. وكلّها ثقة بأنّ العدالة لا محالة آتية… آتية… آتية… ولو بعد حين. تتحدّث عن وجوب استكمال التحقيق في زمنٍ قيل إنّه تغّير وتشكّلت حكومة جديدة وأتى “فخامة رئيس” حكى عن عدالة بيروت في خطاب قسَمه. تقول: “وعدنا فخامته بالعدالة. ووعدنا وزير العدل أيضًا بها. ورئيس الوزراء أيضًا. وهناك أمران مهمان: سمعنا غازي زعيتر (النائب المحصّن المطلوب للتحقيق) يقول تحت قبة البرلمان إنّه مع الحقيقة ويطالب معنا بالعدالة لكنّه لم يمثل أمام قاضي التحقيق. فعن أي عدالة يتكلّم؟ هو لم يرتكب مجرد إهمال وظيفي فجريمة 4 آب ليست إهمالًا بل جريمة. فإذا كان بريئًا فليمثل”. أضافت: “أما القاضي غسان عويدات فلا ندري من أعطاه لقب قاضي شرف. فلينزل ويبرّر براءته”.
ها نحن ندنو من خامس “4 آب”. فهل يمكننا أن نتوقّع صدور القرار الظني؟ ويليام نون، شقيق الضحية جو نون، يُجيب: “تغيّرت أمور كثيرة. الريّس طارق بيطار أوشك على الانتهاء من الملف. وفي لقائنا الأخير معه قال إنّ ملفه بات جاهزًا و”خلّص ملفه”. لكن نستبعد أن يعلن القرار في 4 آب هذا. على كل حال، ليس التاريخ في ذاتِه كلّ القصة بقدر ما أصبح من الضروري أن نعرف جميعنا الحقيقة. التقينا رئيس الجمهورية ووعدنا بالعدالة. نحن أحببنا شخصه لكنّنا نحكم عليه حين يصدر القاضي القرار الظنّي ومذكرات التوقيف وتمضي بموافقة فخامته. حينها يكون وعدَ ووفى “.
ماذا عن مشهدية خامس 4 آب؟ يجيب نون: “سيكون البرنامج رسميًا أكثر من قبل. سيكون حضور رسمي ودبلوماسي وسنضع شاشاتٍ كبيرةً تروي تفاصيل ما عشناه في تلك اللحظة وما تلاها”. ماريانا من جهتها تقول: “لن يكون الكلام سلميًّا بل متقدمًا. سنسمّي الأمور بلا قفازات. سنسمّي من يُعرقل ويتهرّب ويركب الحصانات. وهناك أمر آخر لن نتهاون به وهو موضوع الإهراءات. نريد الإهراء شاهدًا صامتًا. قابلنا وزير الثقافة ووزير الاقتصاد وسلّمنا أوراقًا لكلّ المراجع بهذا الخصوص. نريد أن تبقى الإهراءات كذاكرةٍ جماعيةٍ ووطنيةٍ. هناك من قال لنا إنّ وجودها بشعٌ فأجبناه أن الإهراءات ليست بشعةً، بل الجريمة بحدّ ذاتها”.
كلام كثير يسرده كلّ من ويليام وماريانا. هما، كما كل أهالي الضحايا ورفاقهم، لم يتعبوا. في هذا الوقت، يستمرّ قاضي التحقيق طارق بيطار في الغوص في ملفه ومراجعة تفاصيل التفاصيل. هو لم يندم يومًا على استلامه الملف السميك وردّد دائمًا: لن أتنحّى عنه إلّا إذا طلبت منّي الدولة اللبنانية ذلك. نحن اليوم، في زمنٍ جديدٍ، قيل فيه: عادت الدولة الى الوطن. فهل علينا أن نصدّق؟ العدالة لبيروت أحد أبرز أوجه عودة الدولة فهل اقترب إعلانها؟ هو قال لنا: “وعدتُ بأن أفعل “الماكسيموم” وها هو يفعل. والباقي على الدولة والقضاء. نحن ما زلنا نثق به وننتظر”.