الفرصة الأخيرة لفلسطين: دولة أو دويلة فصائل

الفرصة الأخيرة لفلسطين: دولة أو دويلة فصائل

الكاتب: طوني بولس | المصدر: اندبندنت عربية
3 آب 2025

لم يعد ممكناً إدارة المرحلة القادمة بشعارات المقاومة أو الانقسام الفصائلي. يتطلب الحل تقاطعاً عربياً–دولياً جدياً، وخروج “حماس” من المشهد العسكري، مقابل إعادة بناء سلطة شرعية قادرة على الحكم. كما في لبنان، لا دولة في ظل سلاح خارج الدولة.

بعد عامين تقريباً على الحرب المدمرة في “قطاع غزة” عقب هجوم “طوفان الأقصى” الذي نفذته حركة “حماس” في غلاف غزة، تدخل القضية الفلسطينية مرحلة سياسية مفصلية، لن تحسم بمسار عسكري ولا بشعارات المقاومة وحدها. فالمعركة لم تعد فقط مع إسرائيل، بل مع الزمن ومع الذات ومع شرعية النظام السياسي الفلسطيني الذي فقد تماسكه، إذ بات من الملح البحث عن تقاطع عربي–دولي فعلي، لا فقط للتضامن بل لإنتاج حل شامل لا يمكن أن يبدأ من دون إعادة هيكلة المشهد الفلسطيني الداخلي، وهذا يمر حكماً بخروج “حماس” من المشهد كقوة مسلحة موازية، وبقدرة السلطة الفلسطينية على استعادة القرار والشرعية والاحتضان العربي.

إنها لحظة اختبار كبرى شبيهة بما يعيشه لبنان، حيث لا مجال لوضع البلد على خريطة الحلول قبل تفكيك منظومة “حزب الله” العسكرية والمالية، وإعادة القرار إلى يد الدولة. فكما في لبنان، لا يمكن بناء مشروع وطني في ظل سلاح خارج الدولة، كذلك في فلسطين، لا يمكن التأسيس لدولة تحت مظلة فصائلية أو سلطات متوازية تتقاسم الجغرافيا والشرعية.
لقد تغيرت فلسطين، تغيرت نظرة العالم إليها، تغيرت موازين القوى. ولكن، هل تغيرت أدوات القيادة؟ هل تغيرت رؤية الفلسطينيين لمستقبلهم؟ وهل ما زالوا أسرى الثنائيات القديمة، “فتح” و”حماس”، سلطة ومقاومة، صراع داخلي وتبعية خارجية؟
المرحلة المقبلة، بكل وضوح، ليست مرحلة مقاومة فحسب، إنها مرحلة إعادة بناء وطن وتعزيز صمود شعب وتأسيس دولة على أنقاض الخراب، مرحلة تتطلب ما هو أكبر من الشعارات وأعمق من الخطابات.

توقف المدفع ولم تنته الحرب

من المفيد أن نستعيد تجربة لبنان بعد الحرب الأهلية. لم تكن نهاية الحرب مجرد توقيع “اتفاق الطائف”، بل نتيجة تقاطع مصالح عربية ودولية، واكبتها شخصيات لبنانية عرفت كيف تترجم تلك اللحظة إلى مشروع وطني، مهما كانت عليه التحفظات لاحقاً. فكما احتاج لبنان إلى رفيق الحريري ليقود مرحلة ما بعد الحرب، فإن فلسطين اليوم في حاجة إلى شخصية -أو مجموعة- تستطيع أن تؤسس لمشروع دولة فلسطينية فعلية، لا مجرد كيان إداري هش.

للمرة الأولى منذ أعوام، بدأ العالم يتحرك فعلياً نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية. إسبانيا والنرويج وإيرلندا وسلوفينيا وجنوب أفريقيا… كلها قالت كلمتها، وفرنسا ودول أخرى تبحث الاعتراف رسمياً، المشهد يتغير. الخرائط ترسم من جديد. الحرب على غزة، على رغم قسوتها، وضعت فلسطين مجدداً في صلب القرار الدولي، ولكن السؤال الجوهري الآن، هل نحن جاهزون؟ هل لدى الفلسطينيين قيادة قادرة على استثمار هذه اللحظة التاريخية، وتحويل الاعتراف السياسي إلى بنية تحتية لدولة قابلة للحياة؟ دولة لا تبنى فقط على الكلمات والمواقف بل على اقتصاد حقيقي، وعلى خلق فرص عمل وعلى سيادة القانون ومؤسسات الدولة؟

الناس تغيروا

الشارع الفلسطيني لم يعد كما كان، بعد كل ما جرى في غزة، وبعد أعوام الانقسام والصراع الداخلي، لم تعد الشعارات تكفي. الناس يطالبون اليوم بقيادة قادرة على إعادة بناء ما دمر، وخلق فرص حقيقية للعيش الكريم، وحفظ وحدة الشعب الفلسطيني بدل تعميق الانقسام.
سئم الفلسطينيون من التجاذب بين “فتح” و”حماس”، ومن الحسابات الفصائلية الضيقة، ومن الخطابات التي تستهلكهم دون أن تقدم لهم شيئاً ملموساً. ما يريدونه اليوم هو قيادة تفكر بمنطق الدولة، لا بمنطق التنظيم، قيادة ترى في الشعب مصدراً للشرعية، لا وقوداً لمعركة دائمة.

حريري فلسطيني

قد يقول بعض إن فلسطين تحتاج إلى نموذج رفيق الحريري، رجل الأعمال الذي قاد إعادة إعمار لبنان بعد الحرب، واستطاع أن يجذب الدعم الدولي والتقاطعات العربية-الدولية لبناء بيروت من جديد. ولكن الواقع الفلسطيني أعقد من الحال اللبنانية، وما تحتاج إليه اليوم هو “حريري فلسطيني” بنكهة وطنية خاصة، يملك الشجاعة والنزاهة ويؤمن بأن الاستثمار في الإنسان الفلسطيني هو أساس التحرر الحقيقي، من خلال تعزيز الصمود وتأمين شبكة مصالح اقتصادية واسعة تنتج آلاف فرص العمل وتعزز بقاء الفلسطينيين في أرضهم.
فلسطين تحتاج إلى شخصية أو مجموعة تضع خطة اقتصادية وطنية واقعية، تدرك أن الكرامة لا تأتي فقط من الدعم الخارجي، بل من بناء اقتصاد داخلي منتج ومستقر. من المهم أن تكون هذه القيادة قادرة على إطلاق مشاريع تنموية حقيقية، قادرة على تأسيس بنية قانونية عصرية تشجع الاستثمار، وتحفز الريادة والابتكار، وتخرج المجتمع الفلسطيني من عقلية الصمود السلبي إلى عقلية الإنتاج والانفتاح والمسؤولية.

إعادة الإعمار بأياد فلسطينية

نحن اليوم أمام لحظة نادرة في التاريخ الفلسطيني. العالم بات يسمع، وصدى الاعتراف الدولي بالدولة الفلسطينية يتوسع يوماً بعد يوم. غزة، على رغم الدمار، نبهت العالم وحركت الضمير الدولي ووضعت الظلم في واجهة النقاش العالمي، والشعب الفلسطيني، على رغم الجراح والانقسامات، لا يزال مستعداً للالتفاف حول قيادة جديدة، بشرط أن تكون قيادة مختلفة في جوهرها.
العالم ينتظر من الشعب الفلسطيني (وهو قادر) أن يتولى بما يملك من كفاءات وخبرات إعمار ما تهدم، بحيث يُنخرط الفلسطينيون في دورة اقتصادية تبدأ بالإعمار، ولا تنتهي بالتخطيط لمستقبل أفضل.
إنها الفرصة الثمينة، التي لا يجب أن تمر كما مرت فرص كثيرة من قبل. فهل نبقى نراوح في مربع الانقسام، وننتظر مزيداً من المبادرات المعلبة، أم نبدأ فعلاً في البحث عن ذلك “الحريري الفلسطيني الجديد”؟ ذلك الذي لا يريد سلطة منزوعة السيادة، ولا يبحث عن تمثيل شكلي بل يسعى إلى بناء دولة حقيقية، دولة للناس، لا للأجهزة، للمستقبل، لا للماضي، للكرامة، لا للتبعية.