
حصريّة السلاح: “إذا مش التلاتا.. الخميس”
على قاعدة الاعلان الشهير لمسابقة اللوتو “إذا مش التلاتا.. الخميس”. من المرجح ألا تخرج جلسة اليوم الثلاثاء بقرارات نهائية حاسمة، بل ستنتهي إلى بيان عمومي إيجابي النبرة يشيد بوحدة الموقف الوطني ويدعو لاستكمال البحث يوم الخميس المقبل.
سيكون على الحكومة في الجلسة التالية تثبيت تفاصيل أكثر حول آلية التنفيذ ومراحله إن أمكن، أو على الأقل إحالة الملف إلى الجهات المختصة دستورياً وأمنياً. وتشير المعلومات إلى أنّ الجيش اللبناني والمجلس الأعلى للدفاع سيتوليان لاحقاً مهمّة وضع الخطة التنفيذية لجمع السلاح وضبطه بيد الدولة ضمن المهلة المحدّدة نهاية العام. هذا يعني أنّ الكرة ستنتقل إلى الملعب العملاني حيث يبدأ الاختبار الفعلي: هل سيتمكن الجيش من دخول مرحلة جمع أسلحة المقاومة والفصائل الأخرى بهدوء وتعاون؟ وكيف سيتم التعامل مع ترسانة الحزب الكبيرة شمال نهر الليطاني، والتي كانت وفقا لتفسير الحزب خارج نطاق قرارات الأمم المتحدة السابقة؟ علماً أن اتفاق وقف النار المبرم برعاية أميركية في تشرين الثاني الماضي أتاح للقوى السياسية بتفسيره بشكل متباين حيث يعتبر الحزب أن الاتفاق يقتصر على جنوب الليطاني بينما ترى واشنطن وتل أبيب أنه يشمل نزع سلاح الحزب في كل لبنان .
خلال المرحلة المقبلة، سيواجه لبنان استحقاقاً تاريخياً. فإذا شرعت الدولة فعلاً عبر جيشها ومؤسساتها، في تنفيذ تدريجي متفق عليه لنزع سلاح المجموعات المسلحة وترجمة شعار “السلاح الشرعي الوحيد بيد الجيش” إلى واقع، ستكون النتيجة تثبيت معادلة داخلية جديدة قد تغيّر وجه لبنان السياسي والأمني.
عندها يتوقع أن يجني لبنان سريعاً ثماراً إيجابية: تثبيت الهدوء على حدوده الجنوبية، رفع مستوى الثقة الدولية به، انطلاق ورشة إعادة الإعمار بمساعدة المانحين، وربما بدء معالجة حقيقية للأزمة الاقتصادية الخانقة. وقد ألمح الرئيس جوزف عون في خطابه الأخير إلى أنّ إثبات مصداقية الدولة في هذا الملف بقوله “قد يعيد ثقة العالم بنا وبقدرة الدولة على حفظ أمنها” . كذلك فإن نجاح التفاهم الداخلي سيشكل سابقة عربية في حل معضلة الميليشيات ضمن دولة متعددة الطوائف، ما قد ينعكس إيجاباً على صورة لبنان عربياً ويفتح الباب لدور سعودي – خليجي أكبر في دعمه.
أمّا إذا تعثّر هذا المسار سواء عبر رفض ضمني من الحزب عند مرحلة التنفيذ، أو خلافات داخلية تعطل القرارات، أو تصعيد مفاجئ من قبل إسرائيل يخرج الوضع عن السيطرة، فإنّ لبنان يكون قد أضاع الفرصة الذهبية. وفي هذه الحال، التداعيات ستكون وخيمة. فالولايات المتحدة وحلفاؤها سيعتبرون أنّ لا فائدة من الرهان على السلطات اللبنانية الحالية، مما يعني عودة الضغوط بأقصى حد: استئناف الحرب من الجانب الإسرائيلي بشكل أوسع هذه المرة دون تمييز بين أهداف تابعة للدولة أو للحزب، وتشديد الخناق الاقتصادي والدبلوماسي عبر عقوبات قد تطال مسؤولين رسميين متهمين بـ”التواطؤ” مع الحزب. وقد حذّر المراقبون من أنّ انهيار تلك التسوية سيضع لبنان كله في مهب عاصفة تجعل أحداث السنوات الماضية تبدو بسيطة؛ إذ قد نشهد انهياراً أمنياً شاملاً يمتد من الحدود الجنوبية إلى العمق الداخلي، إلى جانب انهيار اقتصادي أسرع مع انهيار ما تبقّى من ثقة واستنزاف ما تبقّى من احتياطيات.
تمرّ جلسة مجلس الوزراء اللبنانية اليوم، المعروفة إعلامياً بـ”ثلاثاء التوافق الوطني”، في أجواء هادئة نسبياً رغم حساسية القضايا المطروحة. فكل الأطراف الداخلية والخارجية تبدو حريصة على إبقاء هذه الجلسة ضمن سقف الاستقرار وعدم “تفجير” الوضع سياسياً أو أمنيّاً. وتُجمع التسريبات على أنّ النقاشات ستجري بـ”إيجابية مرضية” للجميع بحيث لا يُتخذ قرار حاسم اليوم، بل يستكمل البحث في جلسة مقررة يوم الخميس المقبل. هذه التهدئة المدروسة تأتي بقرار دولي وإقليمي واضح بعدم دفع الأمور نحو أزمة حكومية، وبقرار داخلي بعدم إشعال فتيل أي صدام داخلي في هذه المرحلة الدقيقة.
تفاهمات في الكواليس وصيغة توافقية جاهزة
تكشف مصادر حكومية لـ”أساس” أنّ مشاورات مكثفة بعيداً عن الإعلام جرت في الأيام الأخيرة بين الرؤساء الثلاثة (رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ورئيس المجلس النيابي) إلى جانب تواصل مع قيادة الحزب، بهدف بلورة صيغة توافقية تُطرح في جلسة مجلس الوزراء. وقد عُقد لقاء مهم يوم الإثنين في القصر الجمهوري بين الرئيسين جوزف عون ونواف سلام لوضع اللمسات الأخيرة على هذه الصيغة. وتقول المصادر إنّ الورقة النهائية استندت إلى النقاط الواردة في خطاب رئيس الجمهورية جوزف عون بمناسبة عيد الجيش نهاية الشهر الماضي، والتي شكّلت بدورها ردّ لبنان على المقترحات الأميركية الأخيرة. أبرز هذه النقاط يمكن تلخيصها على النحو التالي:
1- انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي اللبنانية المحتلة وتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار بشكل شامل.
2- التزام كلّ من لبنان وإسرائيل بالقرار 1701 (الصادر عن مجلس الأمن إثر حرب 2006) وتثبيت الحدود الجنوبية للبنان بشكل نهائي.
3- ترسيم الحدود اللبنانية – السورية لحل أي إشكالات عالقة وتعزيز سيادة الدولة على كامل أراضيها.
4- حصر السلاح وحل الميليشيات: سحب سلاح جميع الفصائل اللبنانية وغير اللبنانية وتسليمه إلى الجيش اللبناني، بما في ذلك سلاح الحزب.
5- إعادة إعمار المناطق المدمّرة جراء الحرب الأخيرة، عبر عقد مؤتمر دولي للمانحين وتأمين دعم سنوي ثابت للبنان. وقد اقترح لبنان مساهمة دولية بقيمة مليار دولار سنوياً لمدة عشر سنوات لدعم الجيش والقوى الأمنية ومشاريع إعادة الإعمار.
هذه النقاط تشكّل جوهر الورقة التوافقية التي سيجري بحثها. وتشير المعلومات إلى أنّ الحزب أبدى مرونة مبدئية حيال مبدأ حصر السلاح بيد الدولة إن تمت الخطوات ضمن أجندة وطنية سيادية وليس بإملاءات أميركية أو إسرائيلية مباشرة. وكان الحزب قد أعلن صراحة أنّه “لا يمانع مناقشة مبدأ حصر السلاح وفق أجندة لبنانية سيادية” بدل أن تكون خطوة يعتبرها استسلاماً للشروط الخارجية. وفي هذا السياق، تفيد المعطيات أنّ الصيغة المطروحة تجنّبت تحديد جدول زمني تفصيلي لتنفيذ نزع السلاح. فبدلًا من مراحل مرحلية محددة بتواريخ، اكتفت التوافقات بتحديد مهلة نهائية عامة بنهاية العام الجاري لتحقيق هدف حصر السلاح، على أن يُترك وضع البرنامج التنفيذي وجدول المهل للمؤسسة العسكرية وقرار المجلس الأعلى للدفاع لضمان مرونة التنفيذ. هذا التكتيك يهدف إلى تخفيف حساسية الموضوع بالنسبة للحزب، بحيث يظهر الأمر كقرار سيادي لبناني تُشرف الدولة نفسها على تفاصيل تطبيقه.
مواقف الأطراف الداخلية: بين التحفّظ والترقّب
خصوم الحزب السياسيون، وعلى رأسهم حزب القوات اللبنانية، يتخذون موقفاً حذراً وإيجابياً مشوباً بالترقّب. فقد حرص هؤلاء على عدم عرقلة التوافق المبدئي حالياً. وأكّد النائب ملحم رياشي (عن القوات اللبنانية) أنّ الحزب سيطرح صيغة حلّ في الجلسة “لا تجرح مشاعر أحد” في إشارة إلى تجنّب الاستفزاز المباشر للحزب بما يضمن موافقة الجميع على المبدأ العام لحصرية السلاح بيد الدولة. تيار المقاومة وحلفاؤه داخل الحكومة أيضاً مشاركون في المناقشات من خلال الوزراء المحسوبين عليهم، علماً أنّ تركيبة مجلس الوزراء الحالي هي تكنوقراطية لكنها تضم شخصيات مقرّبة من مختلف القوى بما فيها الحزب. وهذا يعني أنّ أي اتفاق سيصدر عمليًا بموافقة غير مباشرة من الحزب، أو أقله بعدم اعتراضه عليه ضمن المجلس. وتنقل مصادر قريبة من رئيس الحكومة نواف سلام أنّه من غير الواضح إن كانت الحكومة ستلجأ إلى التصويت الرسمي على الخطة أم ستصدر بالتوافق العام دون اعتراضات، إذ يعتمد ذلك على مجريات النقاش وكيفية صياغة القرار النهائي.
داخلياً أيضاً، رئيس مجلس النواب نبيه بري يلعب دوراً خلف الكواليس لضمان سير الأمور بسلاسة. فرغم تحالفه المعروف مع الحزب، يشارك برّي في إعطاء هذه الفرصة الداخلية أولوية، مقتنعاً كما يبدو بضرورة استثمار اللحظة الإقليمية والدولية لتحصين الاستقرار ومنع الانهيار الشامل. ولا يخفى أنّ الأزمة الاقتصادية الخانقة في لبنان تضيف عامل ضغط على الجميع: فالدولة والحكومة بأمسّ الحاجة إلى انفراجات مالية ودعم خارجي، وهذا الدعم مرهون بتنفيذ إصلاحات حقيقية أهمها بسط سيادة الدولة أمنياً وعسكرياً. لذا تجد معظم القوى السياسية نفسها مضطرة للمسايرة والموافقة المبدئية على مسار حصر السلاح، على أمل أن يفتح ذلك باب تخفيف العقوبات واستعادة ثقة المستثمرين والدول المانحة.
أنظار دولية وإقليمية: مراقبة حذرة
يحظى اجتماع الحكومة اليوم الثلاثاء باهتمام بالغ من العواصم الغربية والعربية المعنية بالملف اللبناني. فهذه القوى الخارجية ترى في الجلسة مؤشّراً مبكراً على مدى جدّية لبنان، دولةً وأحزاباً في الاستجابة للمطالب الدولية المتعلقة بسيادة الدولة ونزع سلاح الميليشيات. وقد جاء هذا الاجتماع ثمرة تفاهم أميركي – سعودي تحديداً، إذ توحّدت واشنطن والرياض خلف رؤية مشتركة تدفع نحو استقرار لبنان واستعادة سيادته.
الموقف الأميركي – الخليجي واضح في إتاحة هذه الفرصة للحل الداخلي، إنما بشروط زمنية صارمة. فواشنطن تربط أيّ وقف كامل للعمليات العسكرية الإسرائيلية وأيّ مساعدات مالية بتقدّم ملموس نحو نزع سلاح الحزب خلال أشهر معدودة.
المجتمع الدولي يعتبر هذه المرحلة فرصة أخيرة ينبغي على لبنان اقتناصها؛ فإن نجح في اتفاق داخلي تاريخي يعيد قرار الحرب والسلم إلى الدولة اللبنانية، سيكون ذلك مدخلاً لنجاته من المزيد من التدهور. أما إذا تبيّن أنّ ما يجري مجرد مماطلة وشراء للوقت من قبل المنظومة اللبنانية، أي “مسرحية سياسيّة” هدفها تخدير الخارج دون تغيير حقيقي فإنّ التصعيد قادم وسيكون شاملاً ضد الدولة والحزب معاً، أمنياً واقتصاديًاً. وقد حذّر المبعوثون الأجانب بوضوح من أنّ العقوبات وعزلة لبنان الدولية ستكون السيناريو الحتميّ إذا فشل التوافق الوطني الحالي في ترجمة الأقوال إلى أفعال خلال الفترة المقبلة.
على الصعيد الإقليمي الأوسع، تراقب إسرائيل عن كثب مآل هذا الحراك اللبناني. ورغم اللهجة الحادة في الإعلام الإسرائيلي عن احتمال عودة الحرب الشاملة في أي لحظة، تقول مصادر دبلوماسية لأساس، أن تل أبيب ستمنح المسار السياسي فرصة محدودة تحت الضغط الأميركي. لكنها في الوقت نفسه لن تتردد في استئناف العمليات العسكرية الواسعة إن شعرت أن الحزب يستغل المفاوضات الداخلية لإعادة بناء ترسانته.