
لحظةٌ لولادة «الحزب» الجديد
كثيرٌ من الذين شنّوا الحملات على رئيس الجمهورية، واتهموه بـ«مسايرة» «حزب الله» على حساب المبادئ الواردة في خطاب القَسَم، غيّروا رأيهم بعد خطابه في عيد الجيش، وباتوا يدافعون عنه. ولكن، في الواقع، هؤلاء يتسرّعون في الذهاب كما في الإياب. فمسألة نزع السلاح شديدة التعقيد، ولا يمكن مقاربتها بـ»نعم أو لا»، لا من جانب أهل الحكم ولا من جانب القوى السياسية.
الكلام المتداول صراحة في أوساط أركان الحكم والحكومة هو الآتي: «لا يتوهَّمَنَّ أحد بأنّ «حزب الله» سيتخلّى عن سلاحه ببساطة. هو يعتبره قوته الأولى والأخيرة، وسيدافع عنه حتى الرمق الأخير إذا شعر بأنّ أحداً يستهدفه، من الخارج أو من الداخل. وقبل التحوُّلات العسكرية والسياسية التي أفرزتها حرب الـ11 شهراً، لم يكن أي من القوى السياسية قادراً على إثارة ملف السلاح جدّياً. وصحيح أنّ «الحزب» يبدو وكأنّه قد أصبح أكثر ليونة، لكنه في العمق ما زال متمسكاً بسلاحه. وما نحاول القيام به هو أننا ندعوه إلى الانضواء في الدولة لكي نحميه كأي مكوّن لبناني آخر، فلا يتعرّض هو والبلد لضربات كارثية جديدة».
فحوى هذا الكلام، أنّ أركان الحكم لن يحاولوا نزع سلاح «الحزب» إذا لم يقتنع هو بذلك. وأساساً، ما من طرف سياسي داخلي يدعو إلى المواجهة. وهناك اقتناع لدى أركان الحكم بأنّ «الحزب» نفسه سيسير في الخيارات التي تحميه وتحمي البلد، ولو استهلك المزيد من الوقت وجولات الحوار، لأنّه إذا لم يفعل فسيُصاب بخسائر يصعب تعويضها.
اللافت هو أنّ هذا المناخ يسود بعض الأوساط السياسية الشيعية أيضاً، وحتى داخل بعض بيئات «الحزب»، عدا عن الفئة السياسية غير الشيعية المصنّفة تقليدياً بأنّها حليفة له. وفحوى موقف هذه الأوساط، أنّ من مصلحة «الحزب» الانضواء في الخيارات اللبنانية على قدم المساواة مع الآخرين، لأنّ ذلك يحقق له أفضل المكاسب والحماية.
فكثيرون يعتقدون أنّ ارتباط «الحزب» بإيران، عقائدياً وتنظيمياً، جعله أداة إقليمية تكبّدت الخسائر الفادحة. لكن الكثير قد تغيّر اليوم. فسقوط نظام الأسد والضربات الأميركية والإسرائيلية القاسية في العمق الإيراني، في الحرب الأخيرة، كانت بمثابة زلازل استراتيجية أحدثت شروخاً عميقة في المحور ونسفت موازين القوى. وباتت مصلحة «حزب الله» في أن «يتلبنن» لمواجهة محاولات العزل والاستضعاف.
وفق قراءة هؤلاء، لم تعد في يد «الحزب» أوراق للمناورة. فقد انقطع شريانه الاستراتيجي في سوريا. كما أنّ إيران نفسها منشغلة بـ»إصلاح» الأضرار التي أصابتها، وتراجعت قدرتها على تقديم الدعم المالي واللوجستي. وهذا التحول يبدّل في جوهر وجود «الحزب» الذي بات يواجه بمفرده استحقاق الوجود أو عدمه. ولذلك، بات يُطرح السؤال في العديد من الأوساط: هل يجرؤ «حزب الله» ويتخلّى عن المحور الإقليمي وينقلب لبنانياً خالصاً، ويحتمي بالدولة؟
يقول البعض إنّ هذا الاحتمال يبدو صادماً ومخالفاً لكل ما يُعرف عن «الحزب»، لكنه الخيار الوحيد الآمن. فـ«التلبنن» ليس استسلاماً، بل هو انقلاب استراتيجي يهدف إلى الحفاظ على الكيان. ويمكن لـ«الحزب» أن يستفيد من الوضع الجديد ليثبت نفسه كقوة محلية لا يمكن الاستغناء عنها، تستمد قوتها من شعبيتها، لا من إيران، ليصبح أحد الصنّاع الكبار للقرار اللبناني.
المطلعون على هذه المناخات يقولون إنّ الانقلاب المطلوب يستدعي من «الحزب» أن يتخذ قرارات مصيرية، ومنها أن يبدأ حواراً حقيقياً مع خصومه السياسيين، لإيجاد تسوية داخلية تنهي عزلته. كما يستدعي تغيير صورة «الحزب» من «القوة المسلحة» إلى «الطرف السياسي الفاعل»، فيدمج سلاحه في مؤسسات الدولة، ويحصل في المقابل على ضمانات أمنية وسياسية. وكذلك، يمكن لـ «الحزب» أن يبدأ في بناء تحالفات جديدة مع أطراف محلية وإقليمية، بدلاً من الاعتماد على محور واحد فقط. وحتى الآن، ما يمنع «الحزب» من القيام بذلك هو خصوصاً الولاء العقائدي وترابط المصالح السياسية والمالية، وخوفه من أن يؤدي «التلبنن» إلى زوال العمارة التي أنشأها في لبنان والجوار على مدى عقود، وكلّفته كثيراً.
لكن الضغط الأميركي ـ الإسرائيلي المتزايد، وانهيار العمق الإقليمي الذي كان يرتكز إليه «الحزب»، سيضعانه أمام أحد خيارين: إما أن يستمر في سياسته السابقة، ما يجعله هدفاً سهلاً ومباشراً للضربات الإقليمية. وإما أن يختار الانقلاب سياسياً على ذاته، ويصبح طرفاً لبنانياً يتفاوض على شروط بقائه، أي عليه أن يختار البقاء قوة لبنانية لها موقعها الطبيعي في البلد والسلطة، أو أن يبقى عرضةً لعمليات التدمير الممنهجة إلى آجال غير محددة. ولذلك، اللحظةُ الحالية تاريخية بكل معاني الكلمة. وبدلاً من أن تكون لحظة النهاية بالنسبة إلى «الحزب»، فمن الممكن أن تكون لحظة ميلاده الجديد. والخيار الثاني سيكون النهاية السعيدة التي تريح الجميع.