
لبنان يحارب إمبراطورية الكبتاغون: مطاردة التجار وتجفيف التمويل
يشهد لبنان تحولاً حاسماً في استعادة سيادته، مع قرار مجلس الوزراء حصر السلاح بيد الدولة ومكافحة عصابات المخدرات التي تشكل رافعة للسلاح غير الشرعي. تأتي الحملة، المدعومة بضغوط عربية ودولية، ضمن خطة شاملة تشمل ضرب مصانع الكبتاغون وشبكات التهريب في منطقة البقاع، أبرزها مقتل المدعو “أبو سلة” ومداهمة مصانع الكبتاغون. تاريخياً، وفرت هذه التجارة موارد ضخمة لـ “حزب الله” والنظام السوري، محمية بغطاء سياسي وأمني.
بعد سنوات من الشلل والعمل بمبدأ التراضي، تعود الدولة اللبنانية إلى لعب دورها الطبيعي والحتمي في فرض سيادة القانون، واستعادة هيبتها فوق كل الأراضي اللبنانية. وما صدر أخيراً عن مجلس الوزراء لجهة حصر السلاح بيد الدولة ومكافحة الجريمة المنظمة وعصابات المخدرات، يشكل نقلة نوعية ومفصلية في مقاربة الدولة للواقع الأمني. فالمعادلة باتت واضحة: لا أمن بالتراضي، ولا غطاء لأي فئة أو مجموعة تتخطى حدود القانون.
وترى أوساط سياسية في الحكومة أنه على رغم كل العرقلة التي يحاول البعض فرضها تحت عناوين طائفية أو وزارية أو حتى “هواجس طائفية”، فإن الدولة، بمؤسساتها الدستورية، مضت في الطريق الصحيح، متجاوزةً الألغام السياسية التي لطالما كبّلت قراراتها. وأكدت على أن الدستور واضح: الميثاقية تُبنى على التوازن بين المسلمين والمسيحيين، وليس بين المذاهب، ولا يوجد في الدستور “فيتو” للمذاهب أو “ثلث معطل” وغيرها من المصطلحات التي فُرضت من خارج النصوص الدستورية، مشددةً على أن محاولات البعض حصر القرار الوطني بمزاج طائفي ضيّق لم تعد تمر على أحد، ولن تفرمل مسيرة استعادة الدولة لموقعها.
في هذا السياق، تتقدم المعركة ضد عصابات المخدرات بوصفها الوجه الأخطر لانهيار الدولة، والرافعة الأساس لمنظومات السلاح غير الشرعي والتمويل المافيوي.
البقاع، الحدود، المربعات الأمنية، والمناطق الخارجة عن السيطرة، كلها تتحول اليوم إلى ساحات مواجهة حقيقية مع بنى متجذرة ومحمية لعقود، شكلت ظلاً أسود للدولة، ومصدر تهديد دائم لأمن المجتمع واقتصاده واستقراره.
ويؤكد مقربون من رئيس الجمهورية اللبنانية جوزاف عون أنه مصمم على المضي بمعركة بناء الدولة، كونه المؤتمن على الدستور، مشددين على أنه أعطى مهلة للحوار واستيعاب “الهواجس” على مدى ثمانية أشهر، أمهل وأعطى الفرص مراراً، وفضّل الحوار على التصعيد، والهدوء على التحدي. لكنه، حين حانت لحظة القرار لم يتردد في الانحياز إلى منطق الدولة ومصلحة الشعب اللبناني.
ونقل هؤلاء ما يردده الرئيس عون بالقول “أنا هنا (في منصب الرئاسة) لبناء بلد، لا لأنشئ حزب، ولا لبناء شعبية”، ما اعتُبر رسالة سياسية واضحة، تعني أن الرئيس جاء لحمل الرسالة الوطنية، وحماية لبنان وشعبه من الحصار، لا لتكريس الزعامة أو التنافس على النفوذ. فالمطلوب اليوم ليس استرضاء أحد، بل استعادة الدولة، بكل ما تملكه من شرعية ومؤسسات وسلاح وقضاء.
الحرب على المخدرات
وفي موازاة هذا التحوّل البنيوي في تموضع الدولة، لم تكن القرارات الأخيرة للحكومة مجرد تعبير سياسي، بل شكلت مدخلاً تنفيذياً لإجراءات عملية بدأت تتجلى على الأرض. ففي صلب الورقة الأميركية التي حملها الموفد الأميركي توم براك إلى لبنان، والتي صادق على “أهدافها” مجلس الوزراء، أُدرجت مكافحة المخدرات بنداً مركزياً ضمن خطة دعم الاستقرار، بوصفها أحد أبرز تحديات السيادة والأمن الوطني.
وتضمنت هذه الورقة خطوات واضحة، بدءاً من تحديد وتعطيل سلاسل الإمداد الخاصة بالإتجار بالمخدرات، وصولاً إلى تعزيز قدرات الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، وتحسين التنسيق الحدودي مع السلطات السورية، وإنشاء إطار دعم دولي مشترك يشمل الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، ودول الخليج، والأمم المتحدة.
وبدا واضحاً أن العملية الأمنية النوعية التي نفذها الجيش اللبناني في البقاع أخيراً، جاءت ضمن هذا السياق المباشر، كترجمة فعلية لقرار الدولة بالتصدي لاقتصاد المخدرات ومنظومته المسلحة التي لطالما استمدت حمايتها من واقع الأمر. اليوم، لم يعد المشهد ضبابياً: الدولة تخوض معركتها لاستعادة سلطتها على كامل الأراضي اللبنانية، لا سيما في تلك المناطق التي لطالما شكلت ملاذاً للمطلوبين وتجار السموم ومراكز إنتاج الكبتاغون وتوزيعه، تحت أنظار الجميع.
إمبراطورية الكبتاغون
وبرأي خبراء استراتيجيين، فإن مؤشرات انتقال الدولة من موقع المتفرّج إلى موقع الفاعل، بدا من خلال قرار مجلس الوزراء حصر السلاح بيد القوى الشرعية قبل نهاية العام، بالتزامن مع عمليات أمنية نوعية في عمق البقاع الشمالي ضد أباطرة المخدرات، لتشكل هذه الخطوات معاً تحوّلاً جوهرياً في معادلة القوة داخل لبنان.
وبرأيهم التحرك لم يكن عفوياً، بل جاء على وقع ضغوط عربية ودولية، لا سيما من دول الخليج، لوقف تهريب الكبتاغون والمخدرات عبر الأراضي اللبنانية، حيث تحولت البلاد خلال السنوات الماضية إلى منصّة لتصدير السموم، ما أدى إلى عزلة سياسية خانقة على لبنان.
ولطالما كانت منطقة البقاع (شرق)، الممتدة من منطقة بعلبك إلى الهرمل، أرضاً خصبة لزراعة الحشيش منذ أربعينيات القرن الماضي. الدولة اللبنانية تعاملت مع هذا الواقع ببراغماتية، فأطلقت أحياناً حملات تدمير للمحاصيل أمام الكاميرات لإرضاء الضغوط الخارجية، بينما كانت تتغاضى عن الجزء الأكبر من الإنتاج كنوع من التعويض عن غياب التنمية في المنطقة.
لكن مع اندلاع الحرب السورية في عام 2011، تغيّر المشهد كلياً. ظهر لاعب جديد في سوق المخدرات، وهي حبوب الكبتاغون الرخيصة وعالية الربحية. تكاليف إنتاج الحبة لا تتجاوز دولاراً واحداً، بينما تباع في أسواق عربية بعشرين ضعفاً. هذا الفارق الضخم خلق ثروة هائلة لشبكات التهريب.
وتشير تقارير دولية إلى أن “حزب الله” والنظام السوري السابق أسسا، خلال سنوات الحرب السورية، مصانع لإنتاج الكبتاغون في المناطق الحدودية المحاذية للبنان، تحت إشراف كوادر من الحزب وضباط من “الفرقة الرابعة” في جيش النظام السابق التي كان يقودها ماهر شقيق بشار الأسد. وشكلت الموانئ السورية، لا سيما مرفأ اللاذقية، منفذاً أساسياً لتصدير الشحنات، فيما استُخدم مرفأ بيروت ومطار رفيق الحريري الدولي أحياناً لشحن حمولات مخدرات.
هذه الإمبراطورية لم تكن مجرد نشاط جانبي، بل تحولت إلى رافد بنيوي لاقتصاد الحرب عند الطرفين، يوفر السيولة النقدية في ظل العقوبات.
حماية سياسية وأمنية
كبار تجار المخدرات في البقاع لم يعملوا في فراغ، كثيرون منهم تمتعوا بغطاء سياسي وأمني ضمن شبكة الولاءات العشائرية الموالية لـ “حزب الله” أو حليفته “حركة أمل”. بعض أسماء التجار، مثل نوح زعيتر، لم يخف علاقاته مع عناصر الحزب، وظهر في صور ومقاطع مصوّرة إلى جانبهم، بل وفي مناطق كان يسيطر عليها النظام السابق في سوريا.
التقارير الحقوقية والصحافية وثّقت هذا التحالف غير المعلن، الذي سمح لهؤلاء بالتحرك بحرية بين لبنان وسوريا، وتأمين الحماية لشحناتهم، حتى من داخل مؤسسات الدولة عبر الرشى والعلاقات الزبائنية.
لائحة الأهداف
وكشفت تقارير استخباراتية محلية ودولية، عن نحو 42 ألف مذكرة توقيف معلّقة في قضاء بعلبك–الهرمل وحده، معظمها بتهم مخدرات وخطف وسرقة. كثير من هؤلاء المطلوبين يعيشون بحرية في قرى محصنة، مزودين بأسلحة رشاشة وقذائف، ما يجعل دخول القوى الأمنية مستحيلاً من دون عملية عسكرية واسعة.
ولعل بعض كبار تجار المخدرات بات لهم صيت ذائع في لبنان وبعضهم سطع نجمه وأجريت معهم مقابلات تلفزيونية أسهمت بتلميع صورتهم عبر إعطائهم منابر لتبرير أهدافهم ووضعها في خانة الواقعية و”الظروف” إضافة الى إظهار أنفسهم كـ “زعماء” في مناطقهم يدافعون عن الأرض مع “حزب الله” ويسهمون بتأمين فرص العمل.
ومن أبرز الأسماء الذائعة الصيت في عالم المخدرات والجريمة المنظمة:
نوح زعيتر أو “بابلو إسكوبار لبنان”، مطلوب بعشرات المذكرات، يقود ميليشيات محلية ويتاجر بالسلاح والمخدرات. أدرجته واشنطن ولندن على لوائح العقوبات في مارس (آذار) 2023.
علي منذر زعيتر (أبو سلة)، “ملك الكبتاغون” وواحد من أكثر المطلوبين في تاريخ لبنان، بحقه نحو 390 مذكرة توقيف. اشتهر بأسلوبه في بيع المخدرات من شرفة منزله عبر سلة، وقُتل أخيراً في عملية نوعية للجيش اللبناني.
حسن دقّو، لبناني–سوري، لُقّب إعلامياً بـ “ملك الكبتاغون”، أوقف عام 2021 بعد ضبط شحنة ضخمة كانت متجهة إلى السعودية، لكن يقال إنه واصل إدارة أعماله من السجن.
علي زيد إسماعيل: “بارون” مخدرات من الحمودية (جنوب)، قُتل في عملية أمنية في عام 2018 مع سبعة من مرافقيه.
معركة الشراونة ومقتل “أبو سلة”
وفي 6 أغسطس (آب) الجاري، نفذ الجيش عملية نوعية في حي الشراونة ببعلبك، استخدم فيها الطائرات المسيّرة لضرب أهداف محددة، في سابقة نوعية. العملية انتهت بمقتل “أبو سلة” واثنين من مرافقيه أثناء محاولتهم الفرار بسيارة رباعية الدفع، بعد تبادل كثيف لإطلاق النار. بيان الجيش أكد أن المطلوبين ضالعون في جرائم قتل جنود وخطف مواطن سعودي في عام 2023، إضافة إلى مئات قضايا المخدرات.
كما دهم الجيش اللبناني أخيراً مصنعاً ضخماً للكبتاغون في بلدة اليمونة، ودمر معدات تزن عشرة أطنان، وضبط كميات كبيرة من الحبوب ومخدر “الكريستال”، واعتقل 33 سورياً و4 لبنانيين. وأشارت التحقيقات إلى ارتباط المصنع بشبكة إنتاج تابعة للنظام السوري، تسهم بنحو 80 في المئة من الإنتاج العالمي للكبتاغون.
تفكيك العصابات
في السياق أكد العميد المتقاعد يعرب صخر أن الجيش اللبناني ينفّذ عمليات عسكرية وأمنية ضمن المهمات الموكلة إليه، لملاحقة المطلوبين للعدالة والعصابات الإجرامية الناشطة في مجالات التهريب والسرقة، ولا سيما شبكات سرقة السيارات وتجارة المخدرات، إضافة إلى العصابات المتنقلة التي تنتقل من منطقة إلى أخرى.
وأوضح أن الجيش يضع نصب عينيه ملاحقة جميع المجرمين واعتقالهم، مشيراً إلى أن هذه العصابات منظمة، وبعضها مرتبط بعمليات تهريب السلاح. وعلى رغم الإجراءات الأمنية المشددة، لا يزال تهريب السلاح قائماً، حتى وإن أُغلقت الطرق التقليدية عبر سوريا، لافتاً إلى أن “الجيش يعمل بكامل طاقته لضبط الحدود ومنع التهريب بكافة أشكاله، سواء كان مخدرات أو أسلحة أو أموالاً أو أشخاصاً”.
وأشار إلى أن “المسؤولية في هذا المجال لا تقع على الجيش وحده، بل تتكامل مع بقية الأجهزة الأمنية، كلّ ضمن اختصاصه، سعياً لبسط السيادة الكاملة على الأراضي اللبنانية”. وأضاف أن “العصابات الخارجة عن إطار الدولة، خصوصاً تلك المرتبطة بالميليشيات، تعيش تراجعاً ملحوظاً بعد صدور قرار وزاري بمنعها، ومع تفعيل مؤسسات الدولة سيتقلص وجود هذه الشبكات تدريجاً”.
وختم صخر بالتأكيد على أن “القوى الأمنية، وعلى رأسها الجيش، ستنجز هذه المهمة، تمهيداً للانتقال إلى تنفيذ المهمة الأساسية: نزع سلاح الميليشيات على كامل الأراضي اللبنانية، وهو ما أصبح اليوم في صلب عمل المؤسسة العسكرية، بالتنسيق الكامل مع السلطة السياسية التي قررت المضي قدماً في بناء الدولة”.
سقوط الغطاء السياسي
من جانبه، أشار الصحافي المتخصص في الشؤون القضائية يوسف دياب إلى أن “الحملة التي ينفذها الجيش اللبناني ضد المطلوبين تأتي في إطار الخطة الأمنية الشاملة التي وضعتها الدولة، والتي تنفذها مختلف القوى الأمنية في جميع المناطق اللبنانية، إلا أن الجيش يتولى المهمة بشكل مباشر في منطقة البقاع، نظراً لخطورة الوضع هناك مقارنة بغيرها من المناطق، حيث تنتشر شبكات مسلحة تمتلك تجهيزات عسكرية متطورة”.
ولفت إلى أن “هذه الحملة تعكس خطة حازمة هدفها تفكيك شبكات المخدرات، بما يشمل المصنّعين والمروّجين والمصدّرين إلى الخارج”. واعتبر أن العملية التي استهدفت “أبو سلة” تمثل نموذجاً لهذه الخطة، نظراً لكونه من أخطر المطلوبين، ما يؤكد إصرار الدولة على المضي قدماً في المواجهة من دون تراجع، حتى ضد المجموعات التي كانت تحظى بحماية سياسية أو أمنية. وأضاف دياب أن “ما يجري اليوم يمثل مرحلة مفصلية، إذ يبعث برسالة واضحة لهذه الشبكات مفادها بأن الغطاء السياسي الذي كانت تستند إليه قد سقط، وبات أمامها خياران لا ثالث لهما: إما تسليم عناصرها وقياداتها للدولة ووقف نشاطها، أو مواجهة مصير ‘أبو سلة’ ومَن يشبهه”.
وأكد أن من أبرز التحديات المطروحة على طاولة الدولة حالياً مسألة حصر السلاح غير الشرعي بيد المؤسسات الرسمية، مشيراً إلى أن “آلية دقيقة لتنفيذ ذلك تُدرَس حالياً، ومن المتوقع أن تُطرح أمام الحكومة والمجلس الأعلى للدفاع مع نهاية شهر أغسطس الجاري”.
أما في ما يتعلق بالأرقام، فأوضح دياب أنه “لا توجد إحصاءات رسمية نهائية، لكن عند مناقشة قانون العفو العام سابقاً، جرى الحديث عن أكثر من 40 ألف مطلوب من منطقة البقاع وحدها، بينهم متورطون في تجارة المخدرات وعصابات خطف وسرقة سيارات، ما يعكس مدى تشعب هذه الشبكات”. وختم بالتأكيد على أن “المتغيرات في سوريا، التي كانت سابقاً ملاذاً آمناً لهذه المجموعات، لم تعد توفر لها الهامش السابق، ومع الحملة الأمنية الجادة في لبنان، باتت في وضع بالغ الصعوبة.