
من اتفاق ١٧ أيار إلى ترسيم الحدود البحرية حتى اتفاق وقف اطلاق النار: اتفاقات على قياسهم وخيانة لغيرهم
برز نهج مزدوج المعايير لقوى الممانعة وعلى رأسها “حزب الله”. فهم يبرمون التفاهمات والاتفاقات مع الإسرائيلي أو برعاية أميركية عندما تناسب مصالحهم، ويهلّلون لها كـ”انتصارات” ثم يهاجمون الاتفاقات نفسها إذا جاءت بقرار أو مبادرة من خارج دائرتهم. هكذا أصبح ما يُحللونه لأنفسهم حراماً على غيرهم.
أبرز المحطات منذ اتفاق 17 أيار 1983 وصولاً إلى قرارات حكومة 2025 التاريخية، ليتضح كيف يتصرف هذا الفريق وكأن الاتفاقات حكرٌ له ويشيطن أي خطوة لصالح البلد، لا تكون من صنع يديه.
من اتفاق 17 أيار إلى ترسيم الحدود البحرية
اتفاق 17 أيار 1983: إثر الاجتياح الإسرائيلي لبيروت 1982، وقّعت حكومة الرئيس أمين الجميّل اتفاقية 17 أيار مع إسرائيل بوساطة أميركية لضمان انسحاب الإسرائيلي من الحنوب كما تضمن الإتفاق ترسيم للحدود البحرية افضل بكثير ويحفظ للبنان ألاف الكيلومترات في البحر لصالحه، دون أن نذكر الإستقرار الذي كان سيتبعه في حال استمر هذا الاتفاق. قوبل الاتفاق برفض عارم من سوريا وحلفائها في لبنان آنذاك، ووصفته تلك القوى، ومن ضمنها أطراف باتت لاحقاً بمحور الممانعة، بأنه “اتفاق العار” . وتحت هذا الضغط، أُلغي الاتفاق في 1984 واعتُبر باطلاً. المفارقة أن الذين أسقطوا اتفاق 17 أيار بحجة أنه خضوع، عادوا بعد عقود وأجروا تفاهمات غير مباشرة مع إسرائيل ورعاة دوليين، لكن تحت تسميات مختلفة تراعي حساسياتهم الدعائية.
ترسيم الحدود البحرية 2022: بعد سنوات من النزاع حول الحدود البحرية وحقول الغاز في المتوسط، أبرمت الدولة اللبنانية اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل برعاية أميركية (وساطة آموس هوكشتاين) في أكتوبر 2022 . حرص العهد السابق (رئاسة ميشال عون) و”حزب الله” على تسويق هذا الاتفاق كإنجاز تاريخي للبنان. حتى أن أمين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله اعتبره «انتصاراً كبيراً جداً للبنان» معلناً “مهمة المقاومة أنجزت” بعد أن أبقى مقاتليه في حال تأهّب كوسيلة ضغط خلال المفاوضات . بالطبع شدد نصرالله أن هذا ليس اتفاق سلام أو تطبيع، بل اتفاق تقني لترسيم الحدود . ولكن مهما جرى تكييف التوصيف، الحقيقة الواضحة هي أن الاتفاق وثيقة رسمية موقّعة تضمن أمن متبادل في حقول الغاز بين لبنان وإسرائيل، برعاية واشنطن. أليس هذا الجوهر أميركي – إسرائيلي تماماً كما كان 17 أيار؟ بلى، لكنه مسموح لأن “حزب الله” ارتضاه ووُظّف لمصلحته الاقتصادية والسياسية، فصار ورقة أميركية-إسرائيلية “حلال” لهم بعدما كان اتفاق 17 أيار “حراماً” ووصمة عار في خطابهم.
وقف إطلاق النار: من حرب 2006 إلى حرب 2023
خاض “حزب الله” حرباً مدمرة مع إسرائيل في تموز 2006 دمرت البنى التحتية وأودت بحياة المئات، وانتهت بصدور قرار مجلس الأمن 1701 ووقف للأعمال العدائية في آب 2006. هذا القرار الدولي كرّس وقف إطلاق النار مدعوماً بقوات اليونيفيل، ودعا إلى حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية ومنع تسلّح الميليشيات. ورغم أن القرار صدر تحت الفصل السادس (أي بموافقة لبنان) وبموافقة “حزب الله” عبر حكومة فؤاد السنيورة آنذاك، اعتبره الحزب انتصاراً إلهياً له وادّعى أنه خرج مرفوع الرأس. الواقع أن شروط القرار 1701 حدّت نظرياً من هيمنة “حزب الله” العسكرية جنوباً ومنعته علناً من أي نشاط مسلح هناك، ما اعتبره خصوم الحزب نصف استسلام مبطّن قبل به الحزب تحت الضغط. تخيّلوا لو أن فريقاً لبنانياً آخر وقّع على اتفاق يلزمه بسحب سلاحه؛ هل كان “حزب الله” سيعتبره انتصاراً؟ الجواب واضح.
حرب الإسناد في 2023: عندما اندلعت حرب غزة في أكتوبر 2023، فتح “حزب الله” جبهة محدودة مع إسرائيل في الجنوب تحت شعار دعم المقاومة الفلسطينية. سرعان ما تصاعدت المواجهات على الحدود وتطورت بحلول خريف 2024 إلى حرب أوسع نطاقاً بين “حزب الله” وإسرائيل، بلغت ذروتها باستهدافات إسرائيلية مدمرة لمواقع الحزب وقادته. انتهى النزاع بتدخل أميركي – فرنسي لوقف إطلاق النار أواخر نوفمبر 2024 . تولّى رئيس مجلس النواب نبيه برّي (حليف “حزب الله”) دور الوسيط بالإنابة عن الحزب في مفاوضات غير مباشرة مع المبعوث الأميركي آموس هوكستين، تماماً كما فعل سابقاً إبّان تفاهم نيسان 1996 لإنهاء عدوان “عناقيد الغضب”. وبرعاية أميركية-فرنسية، وبدعم أممي، وُقّع اتفاق وقف إطلاق نار فعلي بين لبنان وإسرائيل في 26 تشرين الثاني 2024. هذا الاتفاق، الذي وافق عليه “حزب الله” عبر قناة برّي، يُلزم لبنان بمصادرة كل سلاح خارج إطار الدولة (أي نزع سلاح الحزب والفصائل) مقابل توقف إسرائيل عن العمليات الهجومية. وشمل أيضاً وقف أي نقل أسلحة إلى “حزب الله” عبر الحدود أو المطار تطبيقاً لقرار منع تسلّح الميليشيات. أي أننا أمام وثيقة استسلام فعليّة.
رغم ذلك، سارع إعلام الممانعة لتصوير الأمر كأنه نصر جديد. سمعنا خطاباً عن “إفشال أهداف العدو” و “الصمود الأسطوري” تعابير لتغليف الحقيقة المُرّة: الحزب خسر كثيراً بل انهزم في تلك الحرب بما فيها قائده التاريخي السيد حسن نصرالله الذي قُتل، فاضطر الحزب للقبول بشروط لم يكن ليتجرّعها لولا التوازنات القاهرة. هنا أيضاً يثار التساؤل: ماذا لو كانت الحكومة البنانية غير خاضعة لنفوذ “حزب الله” هي من قبلت بهكذا اتفاق يصادر سلاحه؟ لا شك أنّ الحزب كان سيصفها بالعمالة والخيانة العظمى. لكنه عندما وجد نفسه في الزاوية، وافق، عبر الدولة، على ما سمّاه يوماً “خطوطاً حمراء”. ازدواجية فاضحة تبرز مجدداً: الاستسلام مغطى بشعارات الانتصار حين يكون من صنعهم، لكنه خيانة لو أتى بقرار سيادي من سواهم.
هذه الوقائع تفضح حقيقة نهج قوى الممانعة: هم “يرفضون” أي إملاءات أو تفاهمات دولية ما لم يكونوا هم طرفها وصانعيها. فإذا جاءت المبادرة من خارج محاورهم، ينبري إعلامهم لوصفها بـ”الإملاءات الأميركية والإسرائيلية”. أما حين يتورطون هم أنفسهم في الأوراق الأميركية-الإسرائيلية، فسرعان ما يجدون المبررات لتمريرها وتسويقها لجمهورهم.
لنأخذ مثالاً حادثة الطائرات الإيرانية: في 28 أيلول 2024 تلقى لبنان إنذاراً إسرائيلياً خطيراً باستهداف طائرة مدنية إيرانية متجهة إلى بيروت. يومها سارع وزير الأشغال والنقل (المحسوب على “حزب الله”) علي حمية إلى منع الطائرة من دخول الأجواء اللبنانية أو الهبوط في مطار رفيق الحريري الدولي تفادياً للتهديد الإسرائيلي. بمعنى آخر، رضخ الوزير للتهديد المباشر حرصاً على السلامة. مرت الحادثة بهدوء تام في بيئة “حزب الله”؛ لم نسمع صرخات عن انتهاك السيادة ولا تباكي على هيبة إيران، بل تم التعتيم وكأن شيئاً لم يكن، لأن القرار اتُخذ من قبل وزيرهم وبالتنسيق مع قيادتهم.
لكن في شباط 2025، عندما حظرت السلطات اللبنانية رحلة إيرانية (تابعة لشركة ماهان) من الهبوط في بيروت للأسباب الأمنية نفسها، أي بعد اتهام إسرائيل لإيران بتهريب أموال وسلاح للحزب عبر رحلات مدنية، قامت قيامة “حزب الله” وأبواقه. خرج أنصاره لقطع طريق المطار وإحراق الإطارات مدعين أن ما جرى “مسّ بالطائفة ووجودها” كما رددوا، وزاعمين أنه انتهاك للسيادة بتعليمات خارجية. حتى أن نائب الحزب حسن فضل الله هاجم الجيش والحكومة وطالب بمعاقبة من تصدّى للمحتجين. تصريحاته صوّرت الأمر وكأن “الإسرائيلي يفرض إملاءاته على المطار والحكومة تُنَفِّذ”. ولم يتردد بعضهم عن إثارة الغرائز بالقول إن منع الطائرة الإيرانية مؤامرة على الشيعة، خطاب شعبوي بحت. والمفارقة الجلية أن الإجراء اللبناني كان بالضبط لحماية لبنان من تهديد إسرائيلي محتم؛ أي تطبيق حرفي لتعهدات اتفاق وقف النار 2024 بمنع تهريب السلاح الذي التزم به لبنان دولياً. لكن لأن القرار هذه المرة اتخذه وزراء خارج وصاية “حزب الله” وفي ظل حكومة لا يهيمن عليها، جنّ جنون الممانعين واعتبروا الأمر تعدياً غير مقبول.
هذا النموذج يختصر فلسفة الممانعة المزيفة: هم يتعاملون مع الإسرائيلي حين يشاؤون، مفاوضات ترسيم عبر الأميركيين، تبادل أسرى عبر وسطاء، هدنات ووقف نار برعاية أممية، ويبررون ذلك بأنه تكتيك مقاومة أو حكمة سياسية. لكن يُحَّرِمون على غيرهم حتى الخطوات السيادية لحماية البلد إن جاءت بقرار سيادي لا يمر عبرهم. باختصار، “المقاومة” عندهم ليست مبدأ ثابتاً بقدر ما هي أداة سيطرة داخلية: يرفعون شعارها في وجه الخصوم السياسيين لشيطنة أي تفاهم لا يملكون مفتاحه، ويتناسونها كلياً عندما يعقدون هم الصفقات مع “الشيطان الأكبر” أو “العدو” نفسه من وراء الكواليس.
حكومة 2025 وقرارات تاريخية في وجه إرث الهيمنة
حكومة الرئيس نواف سلام. المستقلة عن هيمنة “حزب الله”، اتخذت في ٥ و ٧ آب قرارات جريئة غير مسبوقة أعادت رسم الخط الفاصل بين سيادة الدولة ودويلة السلاح. في القصر الجمهوري ببعبدا، طرحت الحكومة خطة أمريكية مفصلة لنزع سلاح “حزب الله” وكافة الميليشيات بحلول نهاية العام (قدّمها المبعوث الأمريكي توم باراك). ما كان أحد ليتصور قبل سنوات أن مجلس الوزراء اللبناني سيجرؤ حتى على مناقشة سلاح “حزب الله” علناً، لكن ذلك حصل فعلاً، انسحب وزراء الثنائي الشيعي من الجلسة اعتراضاً ، غير أن الحكومة مضت في قرارها التاريخي: كلفت قيادة الجيش إعداد خطة خلال 15 يوماً لحصر السلاح بالمؤسسات الرسمية وحل التنظيمات المسلحة. وبتاريخ 7 آب 2025 استكمل المجلس مناقشة بنود المبادرة الأمريكية، وقرر الموافقة على أهداف خطة نزع السلاح دون الخوض بتفاصيلها بعد، أي أنه أقرّ مبدئياً مبدأ احتكار الدولة للسلاح واستعادة السيادة الكاملة على أراضيها.
لقد وصفت واشنطن هذه الخطوة بأنها إيجابية وتاريخية، ورحبت بتوكيل مهمة حصر السلاح إلى الجيش اللبناني. في المقابل، أصدر “حزب الله” بياناً هستيرياً وصف فيه قرار الحكومة بأنه “خطيئة كبرى” واتهمها بتنفيذ “إملاءات أمريكية” تخدم إسرائيل . قال الحزب صراحةً إنه سيتعامل مع القرار وكأنه غير موجود واعتبر أنه يهدف إلى تجريد لبنان من وسائل “مقاومة العدو”. وزعم أن هذه الخطوة “تخدم مصلحة إسرائيل بالكامل”. لكن الواقع أن الحكومة الحالية إنما تطبّق روحية القرارات الدولية ومقتضيات وقف النار 2024 التي تلزم الدولة اللبنانية بسحب السلاح غير الشرعي، وهي التزامات وقّع عليها لبنان بموافقة من الحزب نفسه عبر مفاوضات برّي! أي أن ما تفعله الحكومة 2025 هو حماية لبنان فعلاً، من خلال تنفيذ اتفاقات والتزامات وافق عليها لبنان سابقاً. الفرق الوحيد أن هذه المرة القرار سيادي وشفّاف وليس صفقة. وهذا بالضبط ما أصاب محور الممانعة بالذعر؛ لأن زمام المبادرة أفلت من أيديهم، وبات تنفيذ الاتفاقات يتم لخدمة لبنان كله لا أجندة الحزب الخاصة.
لقد دلّت قرارات 5 و7 آب 2025 على أن هناك نهجاً سياسياً جديداً وجريئاً في لبنان يضع مصلحة البنانيبن فوق مصالح المحاور. حكومة نواف سلام لم تخضع لتهديد انسحاب الوزراء الشيعة، ولم ترتدع أمام تهويل “الخطيئة الكبرى”. بل حظيت بدعم لبناني واسع وخاصة في الأوساط التي ملّت من حروب “حزب الله” العبثية. حتى أن حليف الحزب رئيس مجلس النواب نبيه برّي دعا لضبط النفس وإعطاء أولوية لتثبيت وقف النار بدل التصعيد الداخلي، وانتقدت حركة أمل، قطع الطرقات وأعمال الشغب. هذه مؤشرات على أن زمن الترهيب بشعارات “المقاومة” بدأ يتراجع أمام منطق الدولة ومصلحة اللبنانيين.
في المحصّلة، إن اتفاق وقف إطلاق النار 2024 حمل في طياته مطالبة بنزع سلاح الحزب نفسه، ورغم ذلك وافق عليه عبر وسيطه برّي عندما اشتد الخناق. لكن عندما بادرت الدولة اللبنانية أخيراً إلى استخدام نفس هذه الأوراق لإنقاذ لبنان من دوامة الحرب والشلل، جن جنون “حزب الله” واعتبرها مؤامرة. لا جديد في الأمر سوى انكشاف زيف شعار “ما بدنا إملاءات” فالإملاء بنظرهم مقبول بل مطلوب إذا كان على هَوَى مصالحهم، ومرفوض إن أنقذ لبنان من ورطاتهم.
إن الحكومة الحالية تستحق التقدير لأنها وضعت مصلحة لبنان أولاً وحمايته، فوق كل اعتبار، وواجهت إرث حكومات الهيمنة السابقة بشجاعة نادرة. قراراتها التاريخية في آب 2025 أرست سابقة بأن الدولة اللبنانية قادرة على قول “لا” للسلاح غير الشرعي وللوصاية المقنّعة، وقادرة على تبنّي خيارات سيادية تخدم جميع اللبنانيين وليس فئة حزبية ضيقة. وفي المقابل، ظهر نهج الممانعة على حقيقته: “مقاومة” عندما يناسبه الأمر فقط، واستسلام حين تدعو الحاجة، مع الكثير من الضجيج الإعلامي لإخفاء الحقيقة.
لكن مهما علا صراخ الممانعين، اليوم، صوت هذه الحكومة أبقى وأقوى من أي شعارات زائفة.