
بين الاتهام والمحاسبة… “الاتصالات” تختبر منظومة العدالة في لبنان!
تتجه أنظار اللبنانيين إلى مجلس النواب، ليس فقط كمؤسسة تشريعية، بل كموقع أساسي للمحاسبة، في ظل انعدام الثقة ببعض القضاة، واستشراء الفساد المنظّم على مدى عقود من دون أي مساءلة تُذكر. الملف الأبرز اليوم هو إحالة وزراء الاتصالات السابقين نقولا الصحناوي، جمال الجراح وبطرس حرب إلى لجنة تحقيق برلمانية، في خطوة يفترض أن تكون مقدمة لفتح ملفات الهدر والفساد في واحد من أكثر القطاعات التي حققت ارباحاً باهظة، وتشكل مقدمة لتبيان حقيقة المرتكبين وإنصاف الذين وضعوا حدًا للهدر والفساد!. وتأتي هذه الخطوة بعد رفع الحصانة عن النائب جورج بوشيكيان وشروع النيابة العامة التمييزية في استكمال تحقيقاتها بالجرائم المنسوبة إليه خلال توليه وزارة الصناعة.
الجديّة التي تعمّد النواب إظهارها خلال إحالة وزراء الاتصالات إلى لجنة تحقيق نيابية لا يمكن الركون إليها، على اعتبار أن المسار لا يزال في بداياته، وتتعدد الأسئلة حول مدى جديّته، واستقلاليته، ووجهته النهائية: هل هو مسار محاسبة حقيقي أم أداة لتصفية حسابات سياسيّة؟
لجنة التحقيق وتحديد المسؤوليات
بتصويت 88 نائباً، شكّل مجلس النواب لجنة تحقيق برلمانية لدرس ملف وزراء الاتصالات الثلاثة، وضمت اللجنة نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب (رئيسًا)، والنائبين غادة أيوب وإبراهيم الموسوي كأعضاء أصيلين، إلى جانب ثلاثة أعضاء رديفين هم فريد البستاني، وبلال عبد الله، وياسين ياسين. اللجنة تسلّمت ملفات الادعاء والدفوع التي قدمها الوزراء السابقون، في وقت يتخوّف المعنيون من أن تضيع الحقيقة ويتم تمييع عمل اللجنة وفق تخوّف مصادر مقربة من الوزير السابق بطرس حرب.
ووفق الآلية الدستورية، من المفترض أن ترفع اللجنة تقريرها إلى مجلس النواب، الذي يقرر، في حال توفر الغالبية اللازمة (ثلثا الأعضاء)، الإحالة إلى “المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء” المشكّل أساسًا مع بداية كل ولاية نيابية.
تقييم المسار من ثلاث زوايا
الخبير الدستوري الدكتور عادل يمين يوضح لـ “نداء الوطن”، أن المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء لم ينعقد مؤخرًا، لأن الدستور يشترط أغلبية الثلثين لإصدار قرار الاتهام، ما يجعل المسار دقيقًا وحساسًا سياسيًا وقانونيًا.
وبناءً على قراءة الدكتور يمين، فإن تقييم مسار المحاسبة يمرّ بثلاث مراحل أساسية:
1- أداء لجنة التحقيق النيابية: أي مدى الجدية والدقة في العمل، وجودة التقرير الذي سترفعه ومدى تماسكه القانوني والأدلة التي يتضمنها.
2- تصويت مجلس النواب: في ضوء تقرير اللجنة، هل سيكون التصويت محكومًا بالمعايير القانونية، أم ستحكمه الاعتبارات السياسية والتحالفات النيابية؟
3- شمولية الاتهامات: هل ستقتصر الاتهامات على وزراء معيّنين ينتمون لجهات سياسية محددة؟ أم أن المسار سيتسع ليشمل كل الوزراء الذين تولوا إدارة هذا القطاع على مدى العقود الماضية، بصرف النظر عن انتماءاتهم؟
ويشدّد على أن اختلال أي من هذه المراحل يعني أن الملف لن يكون سوى محطة إضافية في سجل الإفلات من العقاب.
الإحالة إلى القضاء: خيار جوازي؟
وإذ يمنح الدستور، وتحديدًا المادة 70 منه، مجلس النواب صلاحية اتهام الوزراء ورؤساء الحكومات بالخيانة العظمى أو الإخلال بالواجبات، يلفت يمين إلى أن هذه الصلاحية ليست حصرية، بل “جوازية”. ما يعني أن الملاحقة يمكن أن تتم أيضًا أمام القضاء العدلي، كما هو حاصل في بعض الملفات مثل ملف وزير الصناعة جورج بوشيكيان، حيث لم يتدخل البرلمان، وتُركت المسألة للقضاء.
وهنا تطرح إشكالية أساسية: هل إن مجلس النواب بصدد فرض احتكار سياسي للتحقيق والمحاسبة عبر لجانه، أم أنه يفعّل آليات دستورية بهدف تحقيق عدالة منهجية وشاملة؟ علمًا أن لجنة التحقيق لا تملك صلاحيات قضائية، فلا يمكنها إصدار مذكرات توقيف أو اتخاذ قرارات ظنية، وهي ملزمة برفع تقريرها فقط، دون أن تتحول إلى جهة قضائية بديلة.
خطر الانتقائية والفرصة الضائعة
الملف، بحد ذاته، يحمل رمزية تتجاوز الاتصالات. هو اختبار للمؤسسات اللبنانية كلها، ولبداية مسار إصلاحي فعلي في حال استطاعت اللجنة التي يرأسها نائب رئيس المجلس الياس بو صعب، الوصول إلى خلاصات مدروسة، ورفع تقرير مدعوم بالمعطيات، تخوّل مجلس النواب التصرف بمسؤولية وطنية لا حزبية، والقيام بالادعاء المطلوب على المرتكبين.
وتترافق مقاربة هذا الملف، مع تخوّف البعض من تمييع الملف، أو حصره بشخصيات معينة دون غيرها، في محاولة للاستثمار السياسي وتحويل “الاتصالات” إلى أداة للانتقام السياسي، الأمر الذي يمهد إلى تكريس انتكاسة جديدة لجهود المحاسبة، تُضاف إلى أرشيف طويل من ملفات الهدر والنهب والإفلات من العقاب.
مدخل للعدالة أم غطاء جديد للإفلات منها؟
في ظل تأرجح الثقة بالمؤسسات، تبقى الأنظار معلّقة على مسار عمل لجنة التحقيق، ومدى التزامها بالدقة، والعدالة، والشمولية. فإما أن يتحول هذا المسار إلى رافعة لعدالة مؤجلة منذ عقود، أو إلى عنوان جديد للانتقائية والتسييس والضياع في دهاليز النظام الطائفي.