
بهاء الحريري.. هل تكون الثالثة ثابتة؟
مرحلتان فاصلتان في مشهدية الزعامة السنية، في تاريخ لبنان السياسي الحديث: استشهاد الرئيس رفيق الحريري والحالة الاستثنائية التي كان يمثلها عربياً ودولياً، وبروز زعامة الرئيس سعد الحريري بعد استشهاد والده، إلى حين خروجه من الكادر السياسي. تاريخان، تغير في الزمن الفاصل بينهما مزاج الشارع السنّي وأولوياته، فبدا وكأنه يعيش في وضعية “بدل عن ضائع” نتيجة غياب زعيم حقيقي يشارك في صناعة المعادلات. لم يعد السنّة في لبنان يبحثون عن “زعيم سنّي بالهوية”، بقدر ما يريدون مشروعًا وطنيًا قادراً على مواجهة الانهيار.
وبين الشهيد ونجله، يعود النجل الأكبر، بهاء الحريري للمرة الثالثة إلى لبنان، في توقيت لا يمكن فصله عن موعد الانتخابات النيابية المقبلة، لكن مآخذ كثيرة تحيط به. فالرجل يبدو كمن يصر على تقديم نسخة مكررة من نفسه. وفي أي حال، تُحسب له جرأته على العودة من دون غطاء إقليمي عربي أو خليجي. فهو يحط ويطير قبل كل استحقاق انتخابي، ويثير التساؤلات حول جدية مسعاه وقدرته على ملء الفراغ الذي خلفه شقيقه على مستوى الطائفة السنية.
ولكن، بماذا تختلف هذه العودة عن سابقاتها، وما الضمانة بألا تكون النتيجة مماثلة لما سبق. وهل يملك بهاء الحريري مشروعاً حقيقياً، أو إن عودته هي لإثبات الذات في الوقت المتبقي عن موعد الانتخابات النيابية، وإلى أي مدى سيستفيد من الفيتو “المرحلي” الموضوع على شقيقه، وماذا لو قرر سعد خوض انتخابات 2026، من بابها العريض؟
مصادر مقربة من بهاء الحريري تؤكد لـ”المدن” أن هذه الزيارة “تأتي في سياق العودة الدائمة”. فهو أعلن سابقاً عن قراره بالعودة مع عائلته للإقامة في لبنان نهائياً اعتبارًا من أيلول المقبل. كما ترتبط العودة بـ”حاجة لبنان الماسة اليوم إلى أشخاص يتحلون بالشجاعة والوفاء”. وتؤكد المصادر أن الرجل “جاهز لقيادة نهج الحريري السياسي ومتابعة مسيرة والده الشهيد رفيق الحريري”. وهو يستند في جهوزيته إلى “رؤية واضحة لمستقبل لبنان”. ويقدّم نفسه على أنه يمتلك المشروع الوطني “خصوصاً في ظل المرحلة المصيرية التي يمر بها الوطن”. وبحسب المصادر “فإن بهاء الحريري أعد خطة إصلاحية شاملة ترتكز إلى سبع ركائز أساسية”، على أن يتم الإعلان عن تفاصيلها “في الوقت المناسب”، كما يستند إلى الطرح الذي تقدّم به أخيراً في منتدى لندن بعنوان “لبنان والمنطقة”، والذي وضع فيها مشروعه أمام اللبنانيين بتفاصيله الواضحة.
فيلا مجدليون
ولأن التاريخ لا يرحم، انطبعت في الذاكرة اللبنانية، السنية خصوصاً، اللحظة التي حمل فيها مناصرو الشهيد الحريري نجله الأكبر مبايعين، فقال عبارته الشهيرة لتهدئتهم: “يا قوم”، التي كانت كفيلة في العام 2005 بأن تظهره غريباً عن بيئته، ولو أنها ليست السبب الوحيد الذي حال دون أن يكون الوريث السياسي لوالده. غاب بهاء ودخل في غربة طويلة، تخللها عودات متكررة لم ترسخ وجوده ولم تقربه من مناصري والده وجمهوره. ومع كل عودة تظهر جدلية معينة، كما حصل مع مطالبته عمته النائبة السابقة بهية الحريري بمغادرة منزله الذي تقيم فيه منذ سنوات في مجدليون. وهذه خطوة مسّت بوجدان الحريريين المتعاطفين مع العمة، على حساب بهاء ومكانته.
والسؤال المطروح، ألم يكن أجدى لبهاء الحريري أن يتجنب الجدل الذي تسبب به، بإبعاد عمته عن فيلا مجدليون؟ تجيب المصادر: “إن عودته إلى بيت مجدليون حصراً، تمثل له وفاءً بوعد وحلماً عزيزاً لوالده الذي ترك له هذا المنزل، كي يكون مركزاً للنشاط في الشأن العام، كما كان طوال حياته، وسيبقى مفتوحاً أمام جميع أهالي صيدا واللبنانيين”. وتكتفي المصادر بهذا القدر من الإيضاح، مفضلة “أن تبقى القضايا العائلية داخل البيت الواحد، تجنباً للإساءة أو إثارة الخلافات بين أفراد العائلة وفتح الأبواب للتدخل في شؤونها”.
فراغ سعد الحريري
على المقلب الأخر، ثمة من لا يستسيغ عودة بهاء الحريري. ويقول مطلعون على مسار غيابه وعودته للمرة الثالثة إنه يتصرف كـ”هاوٍ سياسي”، ولا يدرك معنى أن يكون وريثاً لزعامة راسخة.
يحاول بهاء الحريري قدر المستطاع، الاستفادة من الفراغ الذي تركه شقيقه سعد. بينما يراقب السنّة في لبنان، الحالة التي يمثلها كل من أحمد الشرع وأبو عبيدة، كنموذجين للسنية السياسية. ومحلياً، لا مشروع سنّي حقيقي، يُستند إليه في المنازلات والتوازنات السياسية، والمميزات التي يُفترض أن يتمتع بها السنّة، واُكتسبت بعد اتفاق الطائف.
ومع عودة بهاء اليوم، والاستعراض الذي رافقه منذ وصوله إلى المطار واللقاءات مع شخصيات سياسية، تتوقف مصادر مطلعة عند ما تعتبره نيات غير سليمة. “فإعادة شخصية من البيت السياسي الحريري قد تكون للتشويش في هذه المرحلة”، خصوصًا إذا لم يكن هناك “دعم من دولة ما، وبالتالي لا يمكن لأي شخصية مستجدة على الساحة السياسية أن تنجح في إحداث تغيير حقيقي”. وهذه واحدة من أبرز العوائق التي سيصطدم بها بهاء الحريري اليوم. فإمّا رؤية سياسية متقدمة وإما الفشل.
لم شمل سياسي
المأخذ السني الثاني على بهاء الحريري أنه “لم يكن يوماً قريباً من الناس”. كان بعيداً عن الجو السياسي في ذروة الأزمات السياسية والاقتصادية التي عصفت بالبلد منذ ما بعد حراك ثورة تشرين، وإن حاول أن يخترق العزلة، من حيث هو في الخارج، ليؤكد أنه من الشعب وله. وهذا المأخذ ترفضه المصادر المقربة من بهاء الحريري، وتقول إنه يمتلك الكثير الذي به يساند الشعب اللبناني. وفي المقابل، يبقى المزاج السنّي ميالاً إلى سعد الحريري. لكن هذا الأمر رهن بتحولات الأشهر المقبلة، مع اقتراب الانتخابات النيابية التي ستترجم الأحجام السياسية لكل سياسي بحسب ما يمثله في الشارع.
وتتوقف مصادر مطلعة عند محاولة بهاء الحريري “لم شمل” بعض الخارجين من “تيار المستقبل”. وترى أنه “إذ يقوم عشوائياً بجمع أشخاص فقدوا وزنهم السياسي، فإنه يبدو كمن يبني بيتاً بأسس هشّة”. وهذا هو الحال في ما يتعلق بفريق عمله الذي يبدلّه كلما عاد إلى لبنان. ويُعرف اليوم من هذا الفريق نجيب بو مرعي الذي كان محازباً في تيار المستقبل لغاية العام 2016، وكان موقعه متقدماً في “bank med“، وعندما انتهت مهمته لدى سعد الحريري، اقترب من بهاء”، كما تفيد المصادر التي تتحدث عن حملة إعلامية كبيرة ترافق عودة بهاء هذه المرة، مقارنة بالمرات السابقة.
وبحسب المعلومات، فإن بعض الشخصيات التي طلب بهاء الحريري التواصل معها أو لقاءها، تحاول أن تتريث قبل لقائه لتعرف ما هو موقف “تيار المستقبل” من الانتخابات النيابية كي لا يُحسب لها أي موقف في السياسة.
نظرة المستقبل إلى عودة بهاء
مصادر “المستقبل” ترى أن بهاء الحريري “لا يشكل أي منافسة جدية، بل يقدم خدمة مجانية للتيار عبر كشف المنتفعين الباحثين عن مصالح شخصية”. وتؤكد أن “الخلافات العائلية خط أحمر، وهناك توجيهات من سعد الحريري في هذا الإطار، بالتزام الحذر في كل كلمة تصدر عن أي محازب أو مؤيد للتيار في ما يتعلق بالعلاقة بين الشقيقين، وهو ما تلتزم به بهية الحريري أيضاً، وترجمته عند وقوع أزمة الفيلا في مجدليون. لكن هذا لا يمنع من القول إن بهاء لا يدرك معنى أن يكون وريثاً لزعامة راسخة”. وبحسب المصادر “هو يأتي للمرة الثالثة ولا ينتظره إلا الفشل، والمكتوب يُقرأ من عنوانه. وقد رأينا ماذا حصل عندما أخلى سعد الحريري الساحة، وما كانت النتائج السياسية. واليوم الأمر للناس”. وتؤكد المصادر أن “جمهور التيار ملتزم وتحت سقف التوجيهات التي ستصدر عن الرئيس سعد الحريري في المرحلة المقبلة”.
وبين عودة بهاء الحريري وغياب سعد الحريري، يبقى الشارع السني في لبنان أمام خيارين: انتظار ولادة مشروع سياسي جامع، أو الاكتفاء بمحاولات فردية لا ترقى إلى مستوى التحديات. وحتى إشعار أخر، سيبقى نجاح بهاء الحريري أو فشله رهنًا بمدى قدرته على تجاوز إرث الخلافات العائلية، وصياغة رؤية متقدمة تواكب تطلعات الشارع.