
13 ألف إصابة سرطان سنوياً… تقرير يوضح دور التلوّث وكلفة العلاج
في وطن يرزح تحت أثقال الانهيار الاقتصادي والسياسي، ويختنق بتلوث بيئي شامل، يطل السرطان كوجه آخر للأزمة، ويحل كضيف ثقيل يطرق أبواب آلاف البيوت اللبنانية بلا استئذان، حيث بات المرض واقعا يوميا يعيشه اللبنانيون، نتيجة تراكمات قاتلة من تلوث الهواء والمياه والغذاء التي تعد وقودا يغذي انتشاره، لتجد العائلات نفسها بين كلفة علاج باهظة تتجاوز إمكاناتها، وواقع صحي متداعٍ يعجز عن تلبية حاجات المرضى، وسط إهمال رسمي مزمن لملف الوقاية والكشف المبكر، وانعدام برامج الوقاية الشاملة، وتراجع قدرة الدولة على الاستجابة، يبقى اللبنانيون عالقين في دائرة صمت قاتلة.
تشير تقارير بيئية وصحية محلية ودولية إلى أن لبنان يواجه مستويات خطرة من التلوث، لكن لا يوجد أرقام واضحة حول أعداد المصابين سنوياً، إلا أن بعض الدراسات تظهر أن اللبنانيين من بين الأعلى في الإصابة بأمراض السرطان. فقد كشفت دراسة صادرة عن مركز global cancer observatory في العام 2022، أن هناك ما يقارب 13 ألف حالة سرطان في لبنان، فيما دراسة صادرة عن الجامعة الأميركية في العام 2024 استندت إلى تقييمات أطباء متخصصين في الأورام، وقدرت ارتفاع نسبة المرضى في العاصمة بيروت بنحو 30% منذ العام 2020.
وبحسب إحصاءات منظمة الصحة العالمية، يحتل لبنان المرتبة الأولى بين دول غرب آسيا في عدد الإصابات بالسرطان قياسا بعدد السكان، إذ هناك 242 إصابة بين كل 600 ألف لبناني كل عام. ووفقا لتقرير صادر عن المنظمة في العام 2020 يوجد 5 أنواع من مرض السرطان تعد الأكثر شيوعا في لبنان وهي: سرطان الثدي، الرئة، البروستات، القولون والمثانة يأتي في المرتبة الأخيرة.
اسباب تزايد نسبة الاصابات
وبعيدا عن الأسباب الطبية الخاصة بمرض السرطان، أكد مصدر طبي أن “هذا الواقع يعود لعدة أسباب، أبرزها التلوث البيئي الناتج من حرق النفايات في الهواء الطلق، والمقالع والكسارات، وانبعاثات المعامل والسيارات، بالإضافة إلى تلوث المياه والتربة نتيجة تسرب المواد السامة والمخلفات الصناعية، خصوصا في مناطق الساحل. كما يشكل الغذاء غير الآمن، مع انتشار المبيدات والأسمدة الكيميائية بجرعات مرتفعة وغياب الرقابة على المواد المستوردة، عاملا مهما في تفاقم الأزمة، ولا يمكن تجاهل الإرث الكارثي لانفجار مرفأ بيروت، الذي أطلق في الجو كميات هائلة من المواد المسرطنة، وأثرها في صحة سكان العاصمة وضواحيها”.
وأضاف المصدر أن “هذا التلوث المزمن يعد بيئة خصبة لتحفيز الخلايا السرطانية، فالعوامل الوراثية تساهم بنسبة تتراوح بين 10 و30% من الإصابات، أما التقدم في السن فيعتبر عاملا أساسيا يزيد من احتمالية الإصابة بالسرطان، ويصنف هذان العاملان من ضمن العوامل التي يصعب التحكم بها، بينما العوامل البيئية تساهم في نسبة تتراوح بين 70 و90%”.
وشدد المصدر على “ضرورة الكشف المبكر للسرطان لانه يعد خط الدفاع الأول”، لكن في بلد مثل لبنان يعاني من انهيار العملة، وارتفاع أسعار الفحوصات المخبرية وصور الأشعة، بات الفحص الوقائي رفاهية غير متاحة لغالبية المواطنين. فالكثيرون يؤجلون أو يتجنبون الكشف الطبي، ما يؤدي الى اكتشاف المرض في مراحل متأخرة يصعب علاجها”، وبحسب المصدر ان “70% من سرطانات الثدي في لبنان تكتشف في مراحل متأخرة، لأن النساء لا يجرين الفحوص الدورية لعدم القدرة المادية أو غياب التوعية”.
ويرى المصدر أنه “رغم قتامة المشهد، هناك الكثير من الخطط التي يمكن وضعها للتخفيف من حدة انتشار أمراض السرطان في لبنان، عبر إطلاق حملات توعية وطنية لتعزيز أسلوب حياة صحي، وأساليب الوقاية والكشف المبكر، دعم الفحوصات الدورية عبر مراكز صحية مجانية أو شبه مجانية، وإلزام المصانع والمقالع باعتماد معايير بيئية صارمة، وسن وتطبيق معايير صارمة لأنظمة المولدات لتخفيف انبعاثات الملوثات، وتحسين الرقابة على الغذاء والمياه والهواء، إضافة إلى تحسين إدارة النفايات والمياه والبنى التحتية لحماية البيئة والمواطنين على حد سواء.
المنظومة الصحية تواجه التحديات
واكدت دراسة نشرتها الجامعة الأميركية في بيروت أن “تلوث الهواء الناتج من انتشار المولدات الكهربائية الخاصة تضاعف في بيروت من 23% إلى ما بين 46% و50% بين عامي 2017 و2023”.
وسط هذه المعاناة، توقعت منظمة الصحة العالمية ارتفاع حالات الإصابة بالسرطان بنسبة 60% في منطقة شرق المتوسط خلال العقدين المقبلين، مع احتمال وصول عدد الإصابات الجديدة إلى 37 مليون حالة عام 2040، ما يضع ضغوطا إضافية على نظام الرعاية الصحية الهش أصلاً في لبنان.
ويعتبر علاج مرض السرطان من أكثر العلاجات الطبية تكلفة وتعقيدا لا سيما في لبنان، حيث تواجه المنظومة الصحية تحديات متعددة، تتراوح تكاليف العلاج بين الفحوصات المتخصصة، العمليات الجراحية، الجلسات الكيميائية والإشعاعية، إلى جانب الأدوية البيولوجية الحديثة التي غالبا ما تكون باهظة الثمن. فهذه التكلفة المالية الثقيلة تتحملها في الغالب الأسر مباشرة، بسبب ضعف التغطية التأمينية ونقص الدعم الحكومي، مما يفاقم العبء الاقتصادي على المرضى وعائلاتهم.
شهادات تعكس واقعاً مأسوياً
ولعل ما يعكس حجم الأزمة بشكل مؤلم، هو شهادات المرضى الذين يكافحون هذا المرض، في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة.
يقول بشارة وهو شاب في العقد الرابع من عمره “أفضل الموت على أن أحرم عائلتي من المنزل أو السيارة أو غيرها من أساسيات الحياة، فقط لأدفع ثمن العلاج الباهظ بلا فائدة ترجى” .
من جهته، يؤكد جان “لو أن الدواء لم ينقطع، لما كان السرطان انتشر في جسم زوجتي، ولكانت ما زالت على قيد الحياة”.
أما سهر فتقول والحسرة تملأ قلبها “بعت ذهبي وأثاث البيت لأكمل العلاج، لكني اليوم متوقفة لأن الدواء لم يعد متوافرا… السرطان يقتل جسدي، والفقر يقتل روحي”.
من جانبها، أكدت رانيا وهي أم لـ 3 أطفال تعاني من مرض سرطان الرحم “أصارع المرض منذ سنوات، لكنني اليوم أنتظر النهاية بلا أمل، فهاجس الموت لا يفارقني، حكموا علينا بالموت البطيء لأننا لا نملك المال لشراء الأدوية على نفقتنا”.
هذه الشهادات تعكس واقعا مأسويا يعانيه مرضى كثر في لبنان، ويواجهون خيارا قاسيا، إما بيع ممتلكاتهم أو وقف العلاج. وقد تبين خلال إحصائية لعدد قليل منهم، أن “أكثر من 60% من المصابين “غير قادرين على شراء الدواء، أو إجراء الفحوصات الدورية، أو الذهاب إلى المستشفى، ومنهم من فارق الحياة لعدم توافر العلاج المناسب لحالته أصلا”.
تكاليف العلاج الباهظة
وتوقعت منظمة الصحة العالمية أن ترتفع حالات الإصابة بالسرطان بنسبة 60 % في شرق المتوسط خلال العقدين المقبلين. ومن المرجح أن تصل إلى 37 مليون إصابة جديدة عام 2040، في حين قدرت التكلفة الاقتصادية العالمية لـ 29 نوعاً من السرطانات في الفترة من 2020 إلى 2050، بمبلغ 25.2 تريليون دولار.
لبنان يعيش أزمة فعلية على صعيد السرطان ، ناتجة من تداخل بين التلوث البيئي المتزايد، والعادات غير الصحية، ونقص إجراءات الوقاية، بينما يتفاقم العبء على الدولة والمواطن بفعل تكاليف العلاج الباهظة وتقلص الموارد الصحية. فالمطلوب خطة طوارئ شاملة تبدأ بضبط مصادر التلوث، مرورا بحملات توعية وكشف مبكر، وصولا إلى تأمين الأدوية والعلاج مجانا أو بأسعار مدعومة، لأن كلفة الإهمال هنا تدفع من أرواح اللبنانيين، فمكافحة السرطان ليست مسألة طبية فحسب، بل قضية وطنية تمس الأمن الصحي والاجتماعي.
ويصادف اليوم العالمي للسرطان في 4 شباط من كل عام، ليكون مناسبة عالمية تسلط الضوء على الجهود المستمرة لمكافحة السرطان، والتخفيف من آثاره على الأفراد والمجتمعات.