مؤشرات تُضعف فرضية أن تكون شُحنة “بحري ينبع” لإسرائيل

مؤشرات تُضعف فرضية أن تكون شُحنة “بحري ينبع” لإسرائيل

الكاتب: مريم مجدولين اللحام | المصدر: نداء الوطن
14 آب 2025

بصياغة ملعونة تحترف براعة الإيحاء أكثر من التبنّي الصريح، خرج الخبر الإيطالي عن حادثة ميناء جنوة إلى مسامع “أشرف الناس” كأنه كشف حصريّ وتقرير موثّق وموثوق عن “سفينة سعوديّة محمّلة بالأسلحة إلى إسرائيل”، رُصِفت فيه مزاعم الجرم المسموم بإتقان، من “صالح إسرائيل” القادم تحت راية المرجعية السنية، إلى “الحصار الشعبي الغربي”، ثمّ قفزة درامية إلى “جرائم الحرب في غزة”، وكأنّ الشرق الأوسط لا يعرف حربًا سوى غزة، مع أنّ المتظاهرين الإيطاليين الذين شكّلوا خلفية المشهد، أعلنوا نشاطهم على السلاح في كل ساحات النزاع، من اليمن إلى السويداء وقسد إلى قلق سيناء.

هكذا، انتقى كُتاب الفرضية من الجبهات ما يخدم الأجندة السياسية التي يسهل تفصيلها على مقياس أجندة التحرير الإيرانية، لا الحقائق. وحراجة اللحظة تظهر جليًا، في محاولة جريدة “الأخبار” وأخواتها إلباس السفينة السعودية ثوب “التطبيع العسكري” مع إسرائيل، فهي لا تصطدم فقط بالحقيقة، بل بالفيزياء العسكرية نفسها!

والحال، أنه ومن ضمن الصور التي جرى تداولها تظهر بوضوح صور AAVP-7A1، وهي ملالة برمائية أميركية ثقيلة، لتتوقف هذه الفرضية الهوليوودية، عند حاجز المنطق العسكري. فإسرائيل لا تملك ولا تستخدم هذا الطراز من الملالات، لا في مخازنها ولا في عقيدتها القتالية. لا بل حتى سلاح البحرية الإسرائيلي ككلّ، لا يدير وحدات إنزال برمائي ثقيل من الأساس، ولا يملك سفنًا مهيأة لتحميل أو إنزال هذا الوحش الحديدي إلى جيشه الذي لن يحتاجه في عملياته العسكرية ضد الغزيين في البرّ. أما مصر، بالمقابل، وهي تحضر كوجهة نهائية للسفينة، فتملك سفن “ميسترال” المهيأة خصيصًا لهذه الملالة بالتحديد ولعمليات الإنزال البرمائي، وقد تستفيد منها مصر للمناورات البحرية المصرية – الأميركية مثل “تحية النسر”.

بالمقياس البارد للعمليات العسكرية، لو أرادت إسرائيل ناقلة جنود، فستصنع أو تشتري شيئًا يناسب جغرافيتها واحتياجاتها، ولن تستورد منصة سبعينية مخصّصة لهجوم بحري لا تقوم به أصلًا. أما مصر، فهي عادة ما تُحدّث وتستبدل دفعات من هذه الملالات، ولديها البنية، والأطقم، والعقيدة لتشغيلها.

ولنفترض أن هناك أي علاقة تسليحية بين أميركا وإيطاليا ومصر وإسرائيل على متن سفينة عربية سعودية، وهذا غير مثبت أصلًا، سيكون المسار الطبيعي مباشرًا من الولايات المتحدة أو أوروبا إلى ميناء إسرائيلي (حيفا/أسدود)، ولإسرائيل وصول مفتوح للمصانع الأميركية والأوروبية، ولا تحتاج لمسار ملتوٍ عبر دولة ثالثة لتعقيد المسألة من دون وجود سبب وافٍ.

حتى نظريًا، لو فُرِّغت الملالات الضخمة في ميناء نظامي قريب من غزة، ذلك لا يعني بالضرورة نقلها لإسرائيل، ونقلُ أسلحة إلى إسرائيل يتطلّب اجتياز معابر خاضعة لرقابة نحو “112 مليون مصري” على الأقل. تاريخيًا، حتى تهريب الفصائل الفلسطينية للأسلحة من مصر، اعتمد الأنفاق/القوارب الصغيرة، لا سفن Ro-Ro العابرة للمحيطات.

وبالنظر إلى الحقائق المُعلنة، إنّ الشحنة، التي يبني عليها محور الممانعة نظريته الخنفشارية، تتطابق مع الواقع التشغيلي العسكري في مصر، لا مع أحلام محابي إيران في شيطنة السعودية.

يبدو أن هناك شرخًا عميقًا بين طموح المتخبطين في نجاة ما، والخلاصة العلمية البحتة، إذ إن اتهام السعودية بتسليح إسرائيل عبر ملالات AAVP-7A1 يشبه اتهام “بوب الأمين” بشراء عربة ثلجية ليقاوم بها في الصحراء، ولا يتخطى كونه “نكتة سمجة”.

ثم هناك السوابق التي يتجاهلها مهندسو السرديات المعادية للسعودية، كالجدل العالمي الذي حضر عامي 2019 و 2020 حول سُفن “البحري”، بما فيها البيانات النارية الصادرة عن منظمة العفو الدولية التي كانت تتمحور حول حرب السعودية على الحوثيين. حينها لم تكن العناوين في الصحافة الأوروبية تتهم السعودية بتهريب الأسلحة نحو إسرائيل، بل كانت تنادي بإيقاف شحن الأسلحة التي قد تُستخدم في قصف اليمن. حتى أمنستي، التي لا تسلم الرياض من نقدها، لم توثّق يومًا هذا الخيط الإسرائيلي الذي يدّعيه اليسار الممانع. لم تركز إلّا على مسألة الخشية من استخدام السلاح في اليمن، وهي حرب علنية لا اختباء فيها ولا مؤامرات، مستندة إلى عقود بيع موثقة وتصاريح تصدير رسمية لا مجموعة متظاهرين ضد التسليح بشكل عام. لو كان هناك نصف دليل على أن سفنًا سعودية تمدّ إسرائيل بالسلاح في خضمّ حرب غزة، لكان بيان منظمة العفو قد تحوّل إلى عاصفة سياسية في البرلمان الأوروبي ومجلس الأمن. لكن الصمت هنا أبلغ من أي نفي.

نحن هنا، أمام حالة كلاسيكية من إعادة تدوير الغضب. وبما أنّ اللبناني يعلم تمامًا مخاطر ميليشيا الحوثي توأم “حزب اللّه” المسلّح في اليمن العزيز، ويدعم استئصال أذرع إيران من بلداننا العربية، ارتأى كُتاب طهران، من بيروت، صناعة خبر ساخن لافت، لجمهور يعاني تقويضًا لفائض قوّته ومصيرًا ذليلًا من ختام رحلته الخامنئية، فكان الخبر ممهورًا بمعادلة بائعي البهارات: تبديل ملصق الشك من اليمن كوجهة معتادة لشحنات السفينة نفسها، إلى وجهة إسرائيل. طبخة رائحتها تأخذ من خرج من مطبخ القرار، إلى مطبخ المحقق كونان.

أما النفي الصادر عن الشركة الوطنية السعودية للنقل البحري “البحري” فلا يمكن التعامل معه كمجرّد ردّ مبرمج أو أوتوماتيكي عابر، بل هو بيان ذو ثقل قانوني وتجاري وسياسي، يصعب الطعن فيه منطقيًا إذا ما وُضع في سياقه الواقعيّ. فالسفينة “بحري ينبع” لم تُعرف في سجلّاتها السابقة، ولا في تتبّعاتها عبر أنظمة التتبّع العالمية، كمركب يفعّل خط ترانزيت سرّيًا لإسرائيل، بل كانت كلّ اعتراضات الماضي، وأبرزها في لوهافر وجنوة عام 2019، مرتبطة حصرًا بشحنات مخصّصة لجبهات حرب اليمن، وهو ما وثّقته كبرى الصحف الأوروبية ومنظمات مثل العفو الدولية بوثائق دامغة.

تاريخيًا، إنّ أيّ خرق فاضح من هذا النوع سيكون انتحارًا دبلوماسيًا أمام الرأي العام العربيّ، فضلًا عن كونه ضربة قاصمة لسمعة “البحري” كشركة مدرجة تخضع لرقابة صارمة ومعايير امتثال دولية. وعليه، فإنّ النفي ليس محاولة للتغطية بقدر ما هو إعادة وضع الرواية في إطارها الواقعي، حيث تنكشف اتهامات التسليح لإسرائيل كقراءة تافهة لا تسندها لا خرائط الملاحة، ولا سجلّات الشحن، ولا حقائق الميدان العسكري… بل آمال من ضاعت آماله على أبواب مكة.