لا تتفاءلوا.. قرار شعيتو لتجنب العقوبات لا لإنصاف المودعين

لا تتفاءلوا.. قرار شعيتو لتجنب العقوبات لا لإنصاف المودعين

الكاتب: عزة الحاج حسن | المصدر: المدن
15 آب 2025

ست سنوات من الصمت والانهيار، لم يتحرّك القضاء اللبناني يوماً للدفاع عن أموال المودعين. ست سنوات لم يصدر خلالها قرار قضائي واحد لمحاسبة من ارتكب الجرائم بحق المال العام قبل المودعين، من هرّب الأموال غير النظيفة أو حتى النظيفة بالتواطؤ مع مصرفيين، من اختلس وارتشى واستغل نفوذ منصبه… 

كل تلك الجرائم وسواها والتي أودت بمليارات الدولارات من أموال المودعين لم يُحاسب عليها أي كان. ليأتي قرار النائب العام المالي، القاضي ماهر شعيتو اليوم ويطلق مسيرة ملاحقة المرتكبين. وهو ما يطرح الكثير من الأسئلة.

مَن المعني بالملاحقات؟ وهل يمكن ملاحقة كل من ارتكب الجرائم المالية أم أن هناك محميين كما جرت العادة في بلد المحاصصات السياسية والمحميات الطائفية؟ والسؤال الأهم هل صدر القرار التاريخي كما وصفه البعض، انطلاقاً من حرص القضاء اللبناني على أموال المودعين أم انصياعاً لضغط دولي يلوّح بالعقوبات على لبنان بعد إدراجه على اللوائح السوداء الأوروبية والرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF

القرار “التاريخي

استيقظ اللبنانيون اليوم على قرار طال انتظاره منذ ست سنوات، قرار قضائي يقضي باسترجاع الأموال التي تم تحويلها إلى الخارج. وبحسب ما صدر اليوم (14 آب 2025) عن النائب العام المالي القاضي ماهر شعيتو فإنه “اتخذ قراراً بناء على تحقيقات جارية، كلّف بموجبه الأشخاص الطبيعيين والمعنويين ومنهم مصرفيون بإيداع مبالغ في مصارف لبنانية تساوي المبالغ التي قاموا بتحويلها إلى الخارج خلال الأزمة المصرفية والمالية التي مرّت بها البلاد وبذات نوع العملة،  بهدف إعادة إدخالها في النظام المصرفي اللبناني وذلك خلال مهلة شهرين، بإشراف النيابة العامة المالية ووفقاً للشروط التي تضعها“.

وعلى الرغم من أهمية القرار وطول انتظاره غير أن التباساً ورد فيه، تحديداً في عبارة “بناء على تحقيقات جارية”. فما هي تلك التحقيقات ومع مَن؟ وهل سيتم فرض استرجاع الأموال على من ارتكب الجرائم فقط؟ أم على كل من هرّب أمواله إلى الخارج دون باقي المودعين الذين علقت ودائعهم في المصارف ولم يتمكنوا من تحويلها؟ 

ظغط خارجي لا حماية حقوق

جاء قرار القاضي شعيتو تحت وطأة ضغط دولي متصاعد، مع إدراج لبنان على اللائحة السوداء للاتحاد الأوروبي واللائحة الرمادية لمجموعة العمل المالي، وتلميحات مباشرة وغير مباشرة باحتمال فرض عقوبات على لبنان ما لم يتحرك سريعاً باتجاه سد مسارات تبييض الأموال واتخاذ إجراءات قضائية حيالها.

وإن كان قرار شعيتو قراراً جريئاً، وبالغ الأهمية على المستويين المحلي والدولي، غير أنه يعكس امتثال السلطة لضغوط الخارج، وخوفاً من سوط العقوبات الدولية، لا لواجبها في حماية الحقوق. 

وإذ يثني رئيس اللجنة الاستشارية لتنفيذ اجراءات خطة عمل مجموعة “FATF” لإخراج لبنان من اللائحة الرمادية كريم ضاهر في حديثه لـ”المدن” على قرار شعيتو لأهميته على مستوى وضع لبنان الدولي، يرى أن جوهر القضية هو الضغط الدولي الذي يشكّل الدافع الوحيد لأي تحرك، في حين أن المصلحة الوطنية تستوجب العمل قبل فوات الأوان.

وهذا يعني أن قرار القاضي شعيتو يندرج في هذا الإطار وليس حماية لحقوق المودعين أبداً، فلا أحد يكترث لأموال المودعين. من هنا ليس على المودعين المبالغة في التفاؤل فالقرار لا يطال كل من حوّلوا أموالهم إلى الخارج دون سواهم إنما من ارتكبوا الجرائم المالية وهذا أضعف الإيمان في بلد منهار مالياً.

التباس في القرار 

ولا يخفي ضاهر وجود التباس في قرار شعيتو، إذ أورد القرار أنه اتخذ بناءً على تحقيقات جارية، فهل هي تحقيقات مع اشخاص مرتكبين مخالفات معينة أم هو قرار مرتكز على قانون الإصلاح المالي وتحديداً على المادة 16 منه غير أن الأخيرة تمنح بعض الصلاحيات للغرفة الثانية في الهيئة المصرفية العليا وليس للنائب العام. من هنا يمكن استبعاد فرضية الاستناد إلى قانون الانتظام المالي خصوصاً أنه لم ينشر بالجريدة الرسمية بعد وهو لا يزال لدى رئيس الجمهورية، مع وجود تحفظات من صندوق النقد الدولي على نسخته الحالية.

ومع استبعاد أن يكون قرار شعيتو مستنداً إلى قانون الاصلاح المالي، بحسب ضاهر، تتجه الأنظار إلى الفرضية الأخرى وهي أن يكون القرار مبنياً على مخالفات محدّدة، أي على إحدى الجرائم المنصوص عليها في قانون العقوبات، مثل الاختلاس، استغلال النفوذ، إساءة استعمال السلطة، أو الرشوة، وهي الجرائم التي تمس المال العام. فإذا توافرت أركان أي من هذه الجرائم بحسب ضاهر، يصبح من الممكن اتخاذ إجراءات الملاحقة.

هناك أيضاً احتمال الاستناد إلى القانون 44/2015 لمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، الذي عدّل القانون 318/2001، ووسّع الحالات المشمولة لتصل إلى 21 حالة، بينها جرائم الإفلاس الاحتيالي أو التقصيري، وإساءة الأمانة، وإساءة استعمال المركز المميّز. ويؤكد ضاهر أن هذه الجرائم يمكن أن تطال المصرفيين أيضاً.

ليس المقصود تحويل الأموال

والأهم من كل ما سبق، أننا نتحدث هنا عن جرائم، وليس فقط عن تحويل الأموال إلى الخارج. فالنائب العام المالي لا يملك صلاحية فرض إجراءات قضائية وملاحقات لمجرد حصول تحويلات مالية إلى الخارج، إلا إذا كانت مخالفة للقانون، أو نتجت عن جرائم.

فلا يمكن للمدعي العام المالي أن يلاحق إن لم يستند إلى مخالفات محدّدة، وبالتالي لا يمكن إسترجاع الأموال التي تم تحويلها إلى الخارج إلا في حال وجود جرائم. بمعنى إذا قام شخص بتحويل أموال إلى الخارج بعد 17 تشرين من دون أن يخالف القانون، فلا يمكن منعه باعتبار أن في حينه لم يكن هناك قانون كابيتال كونترول يمنع التحويل. لكن إذا تبيّن أن التحويل جرى مقابل رشوة أو بتمييز غير مشروع، فهذا يشكل جريمة.

ويذكّر ضاهر بإمكان الاستناد أيضاً إلى القانون 44/2015، الذي يتيح ملاحقة جرائم تبيض الأموال وجرائم أخرى تندرج في نطاقها، ويمكن حينها مصادرة الأموال المتأتية عنها مع فرض غرامة تصل إلى ضعفي قيمتها، والحكم بالسجن بين 3 و7 سنوات.

إذاً ليس بالأمر السهل ما أقره القاضي شعيتو، لكن السؤال: هل أُجريت فعلاً تحقيقات جدّية بحق الأشخاص أو الشركات؟ بصرف النظر عما يمكن أن تكون الإجابة إلا أنه من الواضح وجود إرادة حقيقية للسير بمطالب المجتمع الدولي لتنظيف اسم لبنان عن اللوائح الرمادية والسوداء ومحاسبة الأشخاص المتورطين بأعمال غير مشروعة أو بجرائم تبييض أموال.

بالنتيجة ليس الملف المالي بمعزل عن باقي الملفات السياسية التي أثبتت أن السلطات اللبنانية لا تتحرك إلا تحت الضغط الخارجي، بينما كان من المفترض أن يبادر القضاء والدولة من تلقاء أنفسهم لحماية حقوق المودعين واسترداد الأموال منذ ست سنوات.