
خاص – أنا مسلّح إذًا أنا موجود
ليس مستغربًا تمسّك “حزب الله” بسلاحه الى ما لا نهاية، أو ربما الى نهاية يعرفها الجميع ولا يريد الحزب تصديقها. كما ليس مستغربًا أن تتمسك إيران بتمسك “حزب الله” بسلاحه بعد نحو 45 عامًا من الدعم العسكري والمالي غير المحدود للحزب تحقيقًا لأهدافها في المنطقة. ما هو مستغرَب بالفعل هو استغراب بعض الجهات السياسية الداخلية والخارجية، ومعظم الإعلاميين المتابعين لهذا الملف، موقف “حزب الله” المتمسك بسلاحه، علة وجوده وجواز سفره الى المستقبل. ومن هذا المنطلق، لم تعد مفهومة أو مبررة حالة الصدمة التي تصيب البعض كلما أطلّ الامين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم أو رئيس كتلة “الوفاء للمقاومة” محمد رعد بموقف جديد- قديم يؤكد على تمسّك الحزب بسلاحه، سواء حتى انسحاب اسرائيل من الجنوب أو ربما حتى ظهور المهدي المنتظَر.
واللافت في هذا السياق تحميل بعض السياسيين والإعلاميين الأمور أكثر بكثير مما تحتمل. فالبعض يرد موقف الحزب الى أسباب عقائدية ترتبط بنشأته وتركيبته.. والبعض الآخر يتحدث عن مخاوف لدى الحزب وبيئته أو من النظام السني الجديد في سوريا الذي يكنّ عداءً للحزب بسبب مشاركته في الحرب السورية دعمًا لنظام الرئيس المخلوع بشار الأسد. كما يردّ البعض موقف الحزب الى أمر إيراني بعدم التخلي عن السلاح، على أمل الاستفادة من هذه الورقة في المفاوضات المرتقبة قريبًا بين طهران وواشنطن. تبريرات وتحليلات وتفسيرات كثيرة تعطى كل يوم لقرار الحزب عدم التخلي عن سلاحه، لكنها بالفعل في معظمها تجافي الحقيقة وتأخذ الأمور الى مساحات أخرى من البحث، قد تبدو منطقية، لكنها في الوقت نفسه غير حقيقية.
“حزب الله” في الواقع خسر “حرب الإسناد” ووقع اتفاقية استسلامه في 27 تشرين الثاني 2024. ولم يكن الحزب قد التقط أنفاسه وانتشل جثامين شهدائه من تحت الأنقاض، حتى انهار نظام الأسد في 8 كانون الأول 2024 (اي بعد توقيع اتفاق وقف النار مع اسرائيل بأيام)، ما اضطر الحزب الى سحب المئات من مقاتليه من سوريا على عجل لتجنّب تعرضهم لمجازر على أيدي الفصائل السورية التي استولت على الحكم. هذا الانسحاب المفاجئ من سوريا شكل صدمة لقيادة “حزب الله” توازي بمفاعيلها نتائج “حرب الإسناد” أو ربما تتجاوزها، لأن الحزب أدرك أنه اصبح محاصرًا عسكريًا بعد إقفال طريق امداداته البرية الى ايران.
أدرك “حزب الله” بما لا يدع مجالًا للشك أنه خسر حربين كبرَيين في الوقت نفسه.
بعد ذلك جاءت الضربة الاسرائيلية لإيران في 13 حزيران 2025 في ما سمي خطأً بـ”حرب الـ12 يومًا” لأنها كانت في الحقيقة حربًا من طرف واحد، لتؤكد للحزب سقوط “محور الممانعة” وانتهاء دوره العسكري إقليميًا ومحليًا. منذ تلك اللحظة راح الحزب يدرس خياراته المتبقية: الاستسلام الكامل وتسليم السلاح، مع ما يعني ذلك من خسارة كاملة، أو الاحتفاظ بسلاحه الذي لم يعد يشكل خطرًا الا على الداخل في لبنان، على أمل الاحتفاظ بمكتسباته الداخلية بعد خساراته الخارجية المتتالية.
هذا الموقف يعيدنا بالذاكرة الى حكمة إنسانية عالمية للفيلسوف الفرنسي الشهير رينيه ديكارت الذي قال: “أنا أفكّر، إذًا أنا موجود”. فقد ربط هذا الفيلسوف الرائع بكلمات بسيطة الوجود المادي للإنسان بالتفكير أي بالعقل. من هنا يبدو أن أحد أقطاب “حزب الله” المثقفين استنجد بهذه المقولة، وقولبها بقالب حزبي شرعي لتصبح: أنا مسلّح، إذًا أنا موجود”. فقد أدرك هذا المنظّر (أو ربما أكثر من واحد) أن وجود الحزب الذي انتهى عسكريًا وشعبيًا لم يعد مرتبطًا إلا بأمرين، أو أقله بأحدهما: المال والسلاح، وهما العنصران اللذان قام عليهما “حزب الله” في الأساس في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
وبعدما أيقن الحزب الحصار المالي الذي يعيشه وبأن المال الذي أصبح شحيحًا لديه ربما لن يعود عنصرًا فاعلًا، قرّر التمسك بورقة خلاصه الأخيرة القادرة على حفظ وجوده: السلاح. فهل من عاقل يمكنه ان يتخيّل مستقبلًا لـ”حزب الله” في المعادلة الداخلية بلا مال ولا سلاح؟ إنه الانتحار الفعلي للحزب أو ربما الحجر الأخير على قبر شهدائه وضحاياه، وفي طليعتهم أمين عامه السابق السيد حسن نصرالله.
“حزب الله” يدرك أنه ذاهب الى كربلاء، وقد قالها قاسم ورعد وغيرهم من مسؤولي الحزب. إلا أن ما لم يقله أحد، ربما لأنه معروف من الجميع، ماذا كانت نتيجة كربلاء التي يجهد الحزب لجرّ شيعة لبنان إليها.