
خديعة الحزب الكبرى: من ميدان الحرب إلى السياسة
يقول صن تزو Sun Tzu في كتابه الشهير “فنّ الحرب”: “كلّ حرب تقوم على الخداع… حين نكون قادرين على الهجوم نُظهر العجز، وحين نكون قريبين نُظهر البُعد.”
الخداع هنا ليس مجرّد تمويه أو تضليل بسيط؛ بل عملية مركّبة تعمل على المستويات الميدانية والنفسية والاستخباراتية، بهدف دفع الخصم لقراءة الواقع بطريقة تخدم خططك؛ أي على نقيض الحقيقة.
في الحرب الأخيرة، طبّقت إسرائيل هذا المبدأ بحذافيره. فخلال أشهر وربما سنوات، تركت حزب الله يروّج لامتلاكه “توازن الرعب” وقدرة ردع متماسكة، في حين كانت تحضّر لاختراق نوعي تجسّد في تفجير أجهزة البيجر. كانت هذه العملية نقطة تحوّل في المواجهة، تبعتها اغتيالات دقيقة لضرب البنية القيادية للحزب، من الأمين العام السيد حسن نصرالله إلى خليفته السيد هاشم صفي الدين. أثبتت العملية أن إسرائيل لم تكن منشغلة بمسألة الردع بقدر ما كانت تركّز على تقويض قدرة الحزب على إدارة المعركة. وهكذا تحقق أهم مبادئ صن تزو: جعل العدو يظن أنه يمسك زمام المبادرة، في حين أنَّه يسير باتجاه الفخّ.
لكن الخديعة في لبنان لا تقتصر على الميدان العسكري، فهي متغلغلة في السياسة اليومية، حيث النزاع على السلاح لا يدور فعليًا بين “الدولة” وحزب الله كما يوحي الخطاب العام؛ بل بين أحزاب سياسية تحتكر السلطة وتمثّل زعماء الطوائف.
بعد اتفاق الطائف، لم يعانِ المسيحيون من إقصاء الدولة لهم بقدر ما عانوا من إقصاء الطبقة السياسية الحاكمة لهم، والتي تعاملت معهم بوصفهم خاسرين بدلاً من شركاء. يبدو أن هناك إمكانية لتكرار هذا النمط اليوم، تكرار التجربة اللبنانية القائمة على منطق رابح وخاسر الذي يولّد إحباطاً يتحوّل مع الوقت إلى خطاب أكثر تطرّفاً. فما حصل مع المسيحيين عند عودتهم إلى الحياة السياسية في العام 2005، ورفع شعار استعادة الحقوق، هو أكبر دليل على إصرارنا على التعامل مع بعضنا بعضاً وفقاً لمقولة “الدنيا دولاب”، وما يدور على خصمك اليوم قد يدور عليك غداً. وهكذا نبقى ندور في حلقة مفرغة، المنتصر الوحيد فيها هو منطق المنظومة السياسية، وليس منطق الدولة.
تراجع حزب الله
منذ توقف الحرب الأخيرة، يشهد لبنان مؤشرات واضحة على تراجع موقع حزب الله داخليًا. انتخاب رئيس الجمهورية وتسمية رئيس الحكومة شكّلا بداية تجسيد لهذا التراجع. إزالة صور قيادات محور الممانعة من طريق المطار واستبدالها بإعلانات عن “عهد جديد” كانت بدورها إشارة رمزية لاهتزاز صورة الحزب، إضافة إلى فقدانه السيطرة الكاملة على المطار، وتراجع حضوره العلني في بعض المرافق والمؤسسات.
هذا التراجع وضع الحزب في موقع يحاول فيه امتصاص الضغوط بدلاً من المبادرة. لكن بدلاً من أن يقابل “السياديون” هذا التحوّل بخطاب احتوائي، اختاروا رفع منسوب الاستفزاز والانقسام، وهو ما يجعل المناخ السياسي أكثر قابلية للانفجار.
يُقابل هذا الإصرار بإصرار مضادّ من قبل حزب الله بأن المطالبة بحصر السلاح بيد الدولة هو خدمة لإسرائيل وإذعاناً للضغوط الخارجية. هكذا يتجاهل الحزب العجز العسكري الذي ظهر خلال المواجهة المباشرة مع إسرائيل، ويتجاهل أيضاً الرغبة الشعبية بتسليم سلاحه، ويحاول الإيحاء اليوم أن سلاحه هو ضمانة لبيئته وحمايةٌ لها، وهذا ما يُعزّز منطق الانقسام والاستقطاب.
وبعيداً عن النتيجة التي ستؤول إليها الأمور -أغلب الظنّ أن السلاح سيُسلّم- هو إصرار الطرفين (الممانعين والسياديين) على إبقاء الجرح مفتوحاً، والنزف مستمراً، وهنا تكمن الخديعة: إن الخطاب المبدئي ليس فقط أداة لتصفية حسابات سياسية؛ بل يتجاوزها إلى التماهي مع مخطّطات استراتيجية مُصمّمة لمستقبل المنطقة ولبنان. فـ”خطة ينون” Yinon Plan (1982) وضعت تصورًا لتفتيت الدول المتعددة الطوائف أو الأعراق إلى كيانات صغيرة متناحرة يسهل السيطرة عليها، و”وثيقةClean Break (1996)، أوصت باستثمار الانقسامات الداخلية لخصوم إسرائيل لإخراجهم من المعادلة الإقليمية. في الحالتين، لبنان هو المثال النموذجي: بلد متنوع دينيًا وسياسيًا، منقسم إلى خطوط تماس دائمة تمنع قيام مشروع وطني جامع.
الانقسام الداخلي يخدم إسرائيل
وفي حين يظن كل فريق أنه يحمي قضيته من خصمه الداخلي، ينفّذ عمليًا السيناريو الذي يُبقي لبنان ضعيفًا ومشغولاً بصراعاته، تمامًا كما حصل بعد الطائف، وكما يتكرر اليوم. وإذا كانت الحرب الأخيرة قد أظهرت أن إسرائيل قادرة على ضرب البنية الداخلية لحزب الله من دون مواجهة شاملة، فإن استمرار الانقسام السياسي يحقق النتيجة نفسها في السياسة، من دون إطلاق رصاصة واحدة. والأخطر في كلّ هذا، أن هذه الخطط الاستراتيجية الإسرائيلية لم تعد تُعتبر من المحرّمات في الوعي العام؛ بل باتت تجد من يتبنّاها على نحوٍ مباشر. فهناك بيئة واسعة ترى أن التقسيم يحميها من “الآخر” ويضمن استمرارها. وهذه البيئة قابلة للتوسّع اليوم ما دامَ هناك إصرارٌ داخلي على منطق الرابح والخاسر. ومن المفارقات أن من يجاهر بعدائه لإسرائيل يتمادى في عزل بيئته والاستئثار بها، بدلاً من أن يدفعها في الاتجاه المعاكس عبر الانفتاح وبناء الجسور الداخلية. هذا السلوك يرسّخ صورة الانقسام، ويُبقي خطوط التماس النفسية والسياسية حامية.
إذا كان رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، كما يقول حزب الله (وهو محقّ في ذلك)، يخضعان لضغوط الخارج، فإن الضغط الداخلي الذي يمارسه الحزب من جهة، وخصومه/ زملاؤه من زعماء الطوائف من جهة أخرى، لا يساعد إطلاقاً على التعامل مع هذه الضغوط؛ بل يُفاقمها. فالاستنزاف المتبادل بين الداخل والخارج يترك الدولة في موقع أضعف، ويجعلها أكثر قابلية للابتزاز، بدلاً من أن يؤمّن لها سنداً سياسياً يواجه التحديّات.
التحدي اليوم هو إنتاج معادلة لبنانية ذكية: تعيد الاعتبار لمؤسسات الدولة، وتفتح مسارًا سياسيًا يُطمئن الجميع بدلاً من أن يضاعف مخاوفهم. هذا يتطلّب التخلي عن منطق الرابح والخاسر الذي يخدم المنظومة السياسية، واعتماد مواجهة تقوم على فعل استراتيجي مشترك لا على ردود فعل متبادلة. حينها فقط، تتحوّل الخديعة من فخّ متكرر إلى درس يُبنى عليه.
أمام الدعوة للتخلّي عن الخداع، يبقى السؤال: هل يُعقل أن تتخلّى طبقة سياسية، تعيش على تغذية الانقسامات، عن الاستقطاب في موسم انتخابي مقبل بعد عدّة أشهر؟