هذه “سيادة لبنان” تاريخيًا مع “الفرس” وأدواتهم!

هذه “سيادة لبنان” تاريخيًا مع “الفرس” وأدواتهم!

الكاتب: نوال نصر | المصدر: هنا لبنان
16 آب 2025

هل قصدت إيران تذكير لبنان بأنّه “سرّها” في المشرق العربي، أم إنّ لاريجاني فشل في مهمته التي يُفترض أنّها دبلوماسية، أم إنّ ما بين إيران ولبنان تاريخيًا ما هو أبعد من “اللحظة الحسّاسة”؟ فماذا بين الفرس وبلاد الأرز قبل إنشاء ذراع إيران العسكرية في لبنان – ومعها – وقريبًا – كما قرّرت الدولة اللبنانية – “بلاها”؟

أتى لاريجاني. جال وصال. وعاد وغادر. ابتسم وعبس. قال شيئًا وأضمر أشياء. هو مَن كان كبير المفاوضين الإيرانيين في المسائل المتعلّقة بالأمن القومي ورئيس مجلس الشورى سابقًا في إيران. والدكتور في الفلسفة الغربية. هو رجل إيران الذي يفهم لغة التلفزة والإعلام. لكنّه، على الرغم من كل ما لديه من مواصفات ومواقع – في قسماته – في إخفاء وجه إيران الآخر في تعاطيها مع دولة لبنان التي هي في قاموس بلاد فارس “ناقصة الأوصاف”. فهل قصدت إيران تذكير لبنان بأنّه “سرّها” في المشرق العربي، أم إنّ الرجل فشل في مهمته التي يُفترض أنها دبلوماسية، أم إنّ ما بين إيران ولبنان تاريخيًا ما هو أبعد من “اللحظة الحسّاسة”؟ فماذا بين الفرس وبلاد الأرز قبل إنشاء ذراع إيران العسكرية في لبنان – ومعها – وقريبًا – كما قرّرت الدولة اللبنانية – “بلاها”؟

قصيرة كانت فترة التعاطي من الندّ إلى الندّ بين البلدين. فقبل العام 1979، في عهد الشاه، كانت العلاقات بيننا وبين إيران تقليدية، محورها التبادل التجاري والدبلوماسي والثقافي، بلا سياسة وبلا “بلوط”. لكن، انتهى عصر الشاه وأتت الثورة الإسلامية – بالتزامن مع بدايات الحرب اللبنانية – وتبنّت دولة الفرس دعم حركات المقاومة ضدّ الغرب وإسرائيل. ولبنان، من خلال حزب الله، أصبح اللبّ والشرارة والذراع والأداة. وهكذا، رويدًا رويدًا، أطبقت بلاد فارس على مفاصل أساسيّة في البلد.

أتى العام 1979. انتصرت الثورة الإسلامية الإيرانية، وبدأ إبريق “زيت الفرس” يصبّ في لبنان وجنباته. قبل ذلك، كانت العلاقة “عال العال”. افتُتحت أول سفارة إيرانية في لبنان عام 1945. وبعد أقل من عام، في 1946، فتح لبنان أوّل سفارة له في إيران. يومها، كان عهد الشاه في إيران، والعهد الشمعوني في لبنان. ويُقال إنّ الرئيس كميل شمعون واجه خصومه في ثورة 1958 بسلاحٍ مموّلٍ من الشاه. علاقة “السمن والعسل” تململت بعد لجوء رئيس جهاز السافاك تيمور بختيار إلى لبنان عام 1969 – في عهد شارل الحلو – بعدما عزله الشاه. غادر بختيار لبنان. غادر شارل حلو القصر الجمهوري. وأتى سليمان فرنجية. وعادت العلاقات بين البلدَيْن سليمة سالمة ومعافاة و… ولمن لا يعرف – أو لا يتذكّر – كان في إيران سفارة إسرائيلية، أُقفلت بعد انتصار الثورة.

بعد الثورة الإيرانية، بدأ يطغى البُعد الإيديولوجي الإسلامي على العلاقات بين إيران ولبنان، وانخفض فيها الطابع الرسمي. بدأت فكرة تصدير الثورة الإيرانية إلى الخارج. وفي العام 1981، صادق المجلس الإيراني على اقتراحٍ يدعو للسماح للمتطوعين الإيرانيين بالتوجه إلى لبنان لمحاربة إسرائيل. نعم، بدأت إيران تعمل “على المفضوح” في لبنان الذي تقاطر إليه الحرس الثوري الإيراني لتدريب “المقاومين” وتشكيل “المقاومة الإسلامية”. زار عباس الموسوي إيران. زار راغب حرب إيران. توالت زيارات رجال الدين الشيعة إلى إيران. وانطلق حزب الله. كل ذلك، والدولة اللبنانية “كوما”. نعم، أدخلت الدولة في غيبوبة ليُتمّم السيناريو المرسوم لها من إيران وسواها.

وفي حين كان لبنان يُرندح مع وديع الصافي “لبنان يا قطعة سما عالأرض تاني ما إلها”، كانت إيران تُعمّم مقولة إنّها “ليست مجرّد دولة، بل فكرة تتجاوز كل الحدود”. هكذا، ما عادت العلاقة بين لبنان وإيران رسمية، بل أحادية. باتت إيران ترقص على أرض لبنان “سولو” مُحوّلةً إياه إلى ساحة. وارتفعت صور الخميني وأعلام إيران في مناطق لبنانية كثيرة. وبات الآتي إلى لبنان، من بوابة مطار رفيق الحريري، يُستقبل بعبارة: أهلاً بكم في جادة الإمام الخميني.

منذ ثمانينيّات القرن الماضي، أصبح للحكاية – حكاية العلاقات اللبنانية – الإيرانية – أدواتٍ ألغت العلاقات الرسمية وأسّست لأذرع إقليمية. باتت إيران تأمر حزب الله، وحزب الله يأمر الدولة اللبنانية. وما عادت العلاقات بين البلدَيْن تمرّ عبر سفارتيهما، بل عبر حزب الله.

أكثر من أربعة عقود على إنشاء الذراع الإيرانية – حزب الله – في لبنان. فهل يمكننا الحديث عن علاقات دبلوماسية لبنانية – إيرانية في عقود أربعة آفلة؟

في أربعة عقود من “النفوذ الحزبللاهي” في لبنان انتخبنا 7 رؤساء للجمهورية اللبنانية: أمين الجميل، رينيه معوض، الياس الهراوي، إميل لحود، ميشال سليمان، ميشال عون وها نحن اليوم في عهد جوزاف عون. الياس الهراوي لم يزر طهران وكانت العلاقة بينه وبينها تمرّ عبر دمشق في ظلّ الوصاية السورية. إميل لحود زار طهران عام 2003 والتقى الرئيس محمد خاتمي والمرشد علي خامنئي. والزيارة أتت في سياق تعزيز محور دمشق – طهران – حزب الله. ميشال سليمان زار إيران عام 2012 للمشاركة في قمّة دول عدم الانحياز في طهران والتقى المرشد والرئيس محمود أحمدي نجاد. أمّا ميشال عون فلم يزُر رسميًا إيران خلال ولايته لكنه كان قد فعل قبلها في تشرين الأول عام 2008 مُكرّسًا يومها تحالفه مع محور إيران – سوريا. واعتبر الكثيرون يومها أنّ الزيارة كرّست لبنان “ساحةً”. الأكيد أنّ زيارته لم تأتِ صدفة، بل كرّست هذه الزيارة المنعطف الذي انتهجه الجنرال ميشال عون يوم غادر قصر بعبدا مُسَلِّمًا المناطق المسيحية إلى السوريين الذين فرضوا نظام الوصاية، وتكرّس مع إقرار اتفاق التفاهم مع حزب الله، بُعيد اغتيال رفيق الحريري وعودة عون من منفاه. ومَن نَسِيَ، نُذكّره أن أكثر من هلّل لانتخاب ميشال عون رئيسًا للجمهورية لاحقًا هي إيران، التي كانت أوّل من هنأت عون بانتخابه رئيسًا لجمهورية لبنان عام 2016، واصفةً الأمر “بالانتصار”.

انتصرت “المقاومة” وأصبح لبنان مثل الخاتم في إصبع بلاد فارس. قبضت إيران على لبنان الرسمي وعلى “القدرة العسكرية” متمّمةً ترسيخ وجودها. في الموازاة، عملت إيران، من خلال حزب الله، على جعل “المُعمّمين الشيعة” في لبنان ينصاعون لأهوائها بشكلٍ شبه كامل، ومن خرج من عقالها أدّبته، كما فعلت مع العلامة السيد علي الأمين وسواه. وهكذا، خرج شيعة لبنان من مستوى حضورهم السابق بعدما انتشر فيهم “حزب الله” بنفوذه وقدراته التنظيمية والمالية المستمدّة من مبتدعه الإيراني. زاحت الدولة اللبنانية من “الدرب” لمصلحة تزايد نفوذ الشيعيّة السياسية، بعدما تمكنت ذراع إيران “حزب الله” من إيقاف عمل مجلس النواب عام 2008، وجمّدت الحياة السياسية والاقتصادية، واحتلّت وسط بيروت، وحاصرت السراي الحكومية، وفرضت شروطها على الدوحة بعد “اليوم المجيد” – كما وصفه الحزب – في 7 أيار عام 2008.

إيران ظلّت حاضرةً في لبنان – اللّارسمي – في كلّ مفاصله. فعمل الحزب على احتواء أكثر من نصف المشايخ الشيعة في لبنان. أصبح هو من يدفع إلى الحوزات مبالغ مالية شهرية آتية في حقائب إيرانية، هو ألغى بذلك الحيوية الشيعية. حتّى صبحي الطفيلي، أول أمين عام لحزب الله، اتخذ الحزب قرارًا بفصله من صفوفه. كان القرار إيرانيًا وحزب الله منفذًا. والدولة “كوما”.

أحداث وأحداث لم ننساها. ولبنان الرسمي في كلّها غائب غير موجود. وكلّما أرادت الدولة أن تستيقظ قُمعت. البارحة، في عهد جوزاف عون، قرّر لبنان رسم حدود علاقته مع إيران. هو قرار اعتبرته طهران مستفزًّا. علي لاريجاني حاول أن يبتسم. لكنّ وجهه فضحه. وقال، ضمن ما قال، “إيران لا تتدخل في الشؤون اللبنانية”. نصدّق؟ الأيام الآتية تجيب.