جدار الأحادية الشيعية يتصدع في لبنان

جدار الأحادية الشيعية يتصدع في لبنان

الكاتب: طوني بولس | المصدر: اندبندنت عربية
17 آب 2025

لبنان في حاجة إلى طبقة سياسية جديدة. والمفتاح الحقيقي لن يكون فقط في تبدلات الساحة المسيحية أو السنية، بل في نجاح البيئة الشيعية في إنتاج بدائل داخل مؤسسات الحكم. ياسين جابر وفادي مكي أثبتا أن الأمر ممكن، وأن كسر احتكار الثنائية ليس حلماً مستحيلاً.

لبنان اليوم أمام مفترق مصيري، إما أن يكسر حلقة الأحادية الطائفية والسياسية التي خنقته لعقود، أو يبقى رهينة طبقة محنطة تحكمه منذ نصف قرن. لا مجال للمسايرة بعد الآن، فالتغيير ليس شعاراً، بل ضرورة وجودية، ومن لا يفهم هذه الحقيقة سيطمر مع ركام النظام العفن الذي يعيش على سرقة اللبنانيين وابتزازهم.

إذا عدنا عقوداً إلى الوراء، سنكتشف أن المشهد الشيعي في لبنان كان محكوماً بقاعدة صارمة، لا مكان في الحكم لأية شخصية شيعية لا تجاري “حزب الله” أو حركة “أمل” في قراراتهما. كل من يدخل المنظومة التنفيذية أو التشريعية يجد نفسه، طوعاً أو كرهاً، خاضعاً لسطوة الثنائية. والمعارضة الشيعية، إن وجدت، كانت دائماً محصورة في صفوف ناشطين وأصوات مستقلة خارج المؤسسات، بلا ترجمة فعلية داخل بنية الدولة.

لكن ما حصل في المرحلة الأخيرة يفتح الباب على مشهد مختلف. فشخصيتان شيعيتان، هما وزير المالية ياسين جابر ووزير التنمية الإدارية فادي مكي، أظهرتا تمايزاً واضحاً داخل السلطة لا يبنى على رفض شعاراتي أو خطابات خارجية، بل على ممارسة فعلية ومواقف صريحة من قلب الحكومة. وهذا ما يجعل من تجربتهما محطة أساس تستحق التوقف عندها، لأنها قد تشكل النواة الأولى لوجود شيعي مؤسساتي مستقل عن الثنائي، ولو تدريجاً.

تعددية كسرت الاحتكار

الساحة المسيحية وحدها تعطي الدرس. من كان يظن أن “التيار الوطني الحر” سيبقى ممسكاً برقاب المسيحيين إلى الأبد؟ لقد تهاوى احتكاره، وها هي “القوات اللبنانية” ومعها “الكتائب” وشخصيات مستقلة تفرض نفسها وتشق طريقاً جديداً. التعددية المسيحية اليوم هي صفعة مدوية للذهنية الإقصائية التي قادها “التيار الحر”، وأثبتت أن الديمقراطية الحقيقية ممكنة حين يرفض الناس الزعيم الأوحد ويستعيدون قرارهم.

الطائفة السنية أيضاً لم ترض أن تبقى في فراغ سعد الحريري. انتهت مرحلة “المركزية الحريرية”، وبدأت أسماء وتيارات جديدة تشق طريقها. صحيح أن المشهد لم يتبلور نهائياً بعد، لكن مجرد انكسار الاحتكار يفتح الباب أمام ولادة قيادة جديدة أكثر حيوية وجرأة، قادرة على كسر منطق التسويات الفاسدة التي دفعت الطائفة، ومعها لبنان، إلى الانهيار.

الأحادية السياسية تبقى في الساحتين الدرزية والشيعية. عند الدروز، وليد جنبلاط ما زال المرجعية الوحيدة منذ أكثر من 50 عاماً. وعند الشيعة، قبضة حديدية للثنائي الشيعي الذي صادر الطائفة، وحولها إلى وقود لحروبه، وربط مصيرها بمغامرات إيران.

لكن المفارقة أن الشرخ بدأ يظهر. ياسين جابر وفادي مكي وغيرهما تجرأوا على التمايز. جابر مثلاً انسحب من جلسات حكومية حساسة مرتبطة بالسلاح والورقة الأميركية، ونسج علاقات متينة مع واشنطن والعواصم العربية، مما يعني أن البدائل موجودة إذا قررت الطائفة أن تكسر قيودها.

وزير المالية السابق ياسين جابر، المحسوب على حركة “أمل”، أطلق موقفاً غير مسبوق في البيئة الشيعية الرسمية. فقد شدد بوضوح على أن “أولويتنا بناء الدولة وتقوية مؤسساتها كافة، وفي مقدمها الجيش اللبناني والقوى العسكرية، وحصرية السلاح بيدها”.

هذا التصريح لم يمر مرور الكرام، إذ شن جمهور “حزب الله” حملة عنيفة ضده عبر مواقع التواصل، وصلت إلى حد اتهامه بالخروج عن التوافق الشيعي – الشيعي، فيما رحب عدد من السياسيين اللبنانيين بموقفه الجريء، معتبرين أنه كسر أحد أهم التابوهات التي رسخها الثنائي منذ الحرب الأهلية.

الأهم أن جابر كان غاب عن جلستين حكوميتين أقرتا بند “حصرية السلاح” في بيان وزاري، في ما بدا رفضاً ضمنياً للتماهي مع النهج التصادمي لـ”حزب الله”. جابر لم يأت من خلفية معارضة، بل من صميم التركيبة الشيعية التقليدية، وهذا ما يضاعف دلالة مواقفه. الرجل الذي يحتفظ بعلاقات متوازنة مع واشنطن والعواصم العربية، وبشبكة تواصل داخلية واسعة من “الكتائب” إلى “القوات اللبنانية” وصولاً إلى “الاشتراكي” وحركة “أمل” نفسها، يثبت أنه قادر على لعب دور مختلف.

في المقابل، الوزير فادي مكي جسد نموذجاً آخر للتمايز. فقد أعلن صراحة بعد انسحابه من جلسة السابع من أغسطس (آب) الجاري إثر اعتماد الحكومة للورقة الأميركية “أنا لا أحمل مواجهة مع الشارع الشيعي. إنما أي اعتراض أو تحفظ يجب أن يسجل ضمن الأطر الدستورية”.

جملة تختصر فلسفة سياسية كاملة، لأنها تتعارض مع نهج “حزب الله” الذي طالما تعامل مع الدولة كمجرد غطاء شكلي لهيمنته الأمنية والعسكرية.

موقف مكي أثار عاصفة أكبر، وصلت إلى التهديد العلني بدمه على مواقع التواصل الاجتماعي من قبل حسابات محسوبة على جمهور الحزب، وذلك بعد مشاركته في أولى الجلسات الحكومية التي كرست بند “حصرية السلاح بيد الدولة”. الهجوم العنيف الذي طاوله أظهر حجم حساسية أي خروج عن “طور الطاعة”، وكشف في الوقت نفسه هشاشة سيطرة الحزب حين يواجه خطاباً عقلانياً ومرتكزاً على الدستور من داخل الحكومة نفسها.

من الناشطين إلى المؤسسات

ما فعله جابر ومكي يتجاوز البعد الشخصي. للمرة الأولى منذ نصف قرن، يسجل خروج وزراء شيعة داخل الحكم عن وصاية “الثنائي “في قضايا أساس مثل السلاح ودور الدولة. الفرق جوهري، المعارضة الشيعية كثيراً ما كانت محصورة بناشطين ومثقفين وصحافيين يتعرضون للتهميش أو القمع، بينما التمايز هنا يخرج من صلب المؤسسات الرسمية، من وزراء يجلسون إلى طاولة مجلس الوزراء.

هذا التطور يفتح الباب أمام إمكانية بناء معارضة شيعية مؤسساتية، لا تكتفي بالصراخ من خارج المنظومة، بل تشارك في صياغة القرارات وتترك أثراً في السياسات. وإذا قدر لهذا النهج أن يتوسع فقد يكون بداية مسار طويل لكسر جدار الأحادية الذي صمد نصف قرن.

التحدي الآن، هل يمكن البناء على تجربة جابر ومكي لخلق مساحة أوسع لشيعة الدولة، وشيعة المؤسسات، وشيعة الدستور، في مواجهة شيعة الحزب والميليشيا؟

والجواب مرهون بقدرة هؤلاء وغيرهم على التنسيق، وتجاوز التشتت الذي طالما قوض أية محاولة للخروج من قبضة الثنائية. لكن المؤكد أن الشرخ بدأ، وأن جيلاً من الشيعة يرى نفسه خارج خطاب “المقاومة”، وداخل مشروع الدولة.

لبنان في حاجة إلى طبقة سياسية جديدة. والمفتاح الحقيقي لن يكون فقط في تبدلات الساحة المسيحية أو السنية، بل في نجاح البيئة الشيعية في إنتاج بدائل داخل مؤسسات الحكم. ياسين جابر وفادي مكي أثبتا أن الأمر ممكن، وأن كسر احتكار الثنائية ليس حلماً مستحيلاً.

ولعل التاريخ سيسجل أن بداية سقوط هيمنة “حزب الله” لم تأت من الخارج ولا من الشارع فحسب، بل من وزراء قرروا أن يقولوا “الدستور أولاً، والسلاح للدولة وحدها”.