سابقة في لبنان: نواب يتقدمون بشكوى قضائية ضد نعيم قاسم

سابقة في لبنان: نواب يتقدمون بشكوى قضائية ضد نعيم قاسم

الكاتب: طوني بولس | المصدر: اندبندنت عربية
21 آب 2025

يشهد لبنان منعطفاً سياسياً وقضائياً لافتاً مع تقدم مجموعة من النواب والسياسيين والناشطين بشكوى قضائية ضد نائب الأمين العام لـ”حزب الله” نعيم قاسم، هذه الخطوة النادرة في تاريخ المواجهة مع الحزب تفتح الباب أمام اختبار جدي للقضاء اللبناني. فهل بات قادراً على التحرر من هيمنة السلاح والمنظومة، أم أنه سيبقى أسير المعادلة القديمة التي كبلت مؤسسات الدولة لعقود؟

لم يكن المشهد اللبناني في العقود الأخيرة سوى انعكاس لمنظومة متشابكة، تداخلت فيها السلطة مع السلاح، واصطدمت فيها محاولات الدولة لإثبات وجودها بسطوة “حزب الله” وهيمنته على مفاصل القضاء والأمن والسياسة، وهو ما ينفيه الحزب مراراً مشدداً على أنه شريك في نهضة البلاد.

إلا أن خطوة مجموعة من النواب والسياسيين والناشطين بتقديم إخبار إلى النيابة العامة ورفع شكوى قضائية ضد الأمين العام للحزب نعيم قاسم، تحمل دلالات أعمق من مجرد إجراء قضائي، إذ إنها تمثل إعلاناً صريحاً عن بداية مرحلة جديدة. خطوة كهذه لم تكن ممكنة قبل أشهر قليلة، لكن ما جرى اليوم يعكس بداية تحول استراتيجي يتخطى الرمزية ليضع مؤسسات الدولة أمام اختبار جدي.

فهذه الشكوى قد لا تكون الحدث الأهم من حيث النتائج المباشرة، لكنها بالتأكيد الحدث الأبرز من حيث الرمزية والدلالة السياسية، بخاصة أنها تطاول رأس الحزب أي أمينه العام، وليس أية شخصية في صفوفه.

نواب وشخصيات سياسية تتقدم بالدعوى

قبل ساعات، أعلن عدد من النواب والشخصيات السياسية في لبنان نيتهم التقدم بشكوى أمام النيابة العامة التمييزية، ضد قاسم، على خلفية تصريحاته الأخيرة، معتبرين أنها “التي لامست حدود تعريض لبنان لحرب أهلية وإثارة النعرات الطائفية”، وقد عُقد اجتماع في مكتب النائب والوزير السابق أشرف ريفي، شارك فيه النواب جورج عقيص وكميل شمعون وإيلي خوري والنائب السابق إيدي أبي اللمع، والمحامي إيلي محفوض، والدكتور عبد المجيد عواض، وقد اعتبر المجتمعون أنه في حال سارت الشكوى في مسارها القانوني، فستكون المرة الأولى التي يفتح فيها ملف قضائي في حق مسؤول رفيع في “حزب الله” أمام القضاء اللبناني، بما قد يشكل اختباراً جدياً لمدى تحرر المؤسسات من الضغوط السياسية والحزبية.
في هذا الإطار، أوضح رئيس “حركة التغيير” المحامي إيلي محفوض أن الخطوة تحمل دلالات استراتيجية، وقال “اليوم نحن أمام امتحان وطني بامتياز، لا دولة في العالم ترضى أن يكون على أرضها تنظيم مسلح يهدد شعبها ويصادر قرارها. لبنان ليس استثناء، نحن في مواجهة مع ميليشيات تعمل كذراع للحرس الثوري الإيراني، ولسنا في مواجهة مع طائفة أو فئة”.

ورأى محفوض أن “رفع الشكوى أمام القضاء يمثل إعادة الاعتبار لمنطق الدولة”، معتبراً أن “حزب الله” كان يواجه خصومه “بالاغتيال والترهيب”، في حين الهدف الذي يسعى إليه اللبنانيون هو الاحتكام إلى القانون. وأضاف “عندما نرفع شكوى في حق قاسم، فإننا نضع حداً لمرحلة الإفلات من العقاب ونكرس مبدأ المحاسبة، هذه سابقة ستفتح الباب أمام محاسبة كل من يهدد السلم الأهلي”.
وأكد “ضرورة النضال لمنع تحول القضاء إلى شاهد زور أو أداة بيد الحزب”، مطالباً النيابة العامة أن “تثبت أنها تحررت من الضغوط وأنها قادرة على استدعاء أي شخص مهما كان موقعه، فإذا كان القانون لا يطاول من يحرض على الحرب الأهلية، فعن أية دولة نتحدث؟”، وختم محفوض مؤكداً أن “التنسيق مع بقية القوى السيادية مستمر”.

بين العجز والجرأة

التصريحات التي فجرت موجة الاعتراض، جاءت في خطبة ألقاها الشيخ نعيم قاسم قبل أيام تحذر الحكومة من “معركة كربلائية” إذا ما حاولت تنفيذ خطة نزع السلاح، كما قال قاسم إن تسليم الحزب لسلاحه يعني “حرباً أهلية”. وبرأيه، فإن الحكومة بتوجهها نحو نزع السلاح، “تسلم لبنان لإسرائيل”. هذه العبارات فهمت لدى خصوم الحزب كتحريض علني وتهديد للسلم الأهلي، خصوصاً أنها أتت بعد قرار رسمي بتكليف الجيش وضع خطة لتجريد الحزب من سلاحه بحلول نهاية العام.

وكثيراً ما كان القضاء اللبناني متهماً بالعجز أو بالتواطؤ، في مواجهة ملفات تتصل مباشرة بـ”حزب الله”. فالحزب لم يعتبر يوماً مجرد طرف سياسي، بل شكل قوة فوق الدولة، قادرة على تعطيل مسارات التحقيق أو تحويلها إلى أداة للانتقام من الخصوم. والأمثلة على ذلك كثيرة، من ملاحقة ناشطين انتقدوا سلاحه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إلى توقيف أشخاص لمجرد انتمائهم إلى بيئات سياسية معارضة.

فيما اليوم يبدو أن لبنان دخل مرحلة مختلفة، من انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وتشكيل حكومة تحمل شعار السيادة والإصلاح، ترافقا مع ضغوط دولية وعربية متصاعدة لفك قبضة الحزب. هذه التطورات لم تعد مجرد مواقف خطابية، بل تترجم في خطوات عملية مثل تقديم الشكوى القضائية. التي قرأت من قبل كثيرين على أنها رسالة إلى الداخل والخارج بأن لبنان لم يعد ساحة مستباحة بالكامل، ولا يمكن فصل المشهد الداخلي عن الضغوط الخارجية. المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، أعاد تأكيد ضرورة تطبيق القرارين الدوليين 1559 و1701، أي نزع سلاح الميليشيات وبسط سيادة الدولة على أراضيها. الدول العربية، خصوصاً دول الخليج، وضعت بدورها شرط الإصلاح السياسي والاقتصادي كمدخل لإعادة احتضان لبنان. هذا الضغط ترافق مع إدراك داخلي متزايد أن استمرار هيمنة الحزب يهدد الكيان اللبناني برمته، اقتصادياً وسياسياً وسيادياً.

حملة إعلامية سياسية ضد الحزب 

في المقابل، خرج الكاتب السياسي قاسم قصير بموقف مضاد، حمل طابع السخرية والرفض القاطع، معتبراً أن الخطوة تعكس انفصالاً عن الأولويات الوطنية. فقال “آخر بدعة لبنانية: مجموعة روبوتات سيادية بلا إحساس وطني. هؤلاء لا يعنيهم الاحتلال الإسرائيلي ولا الاعتداءات المتواصلة على لبنان، بل يريدون أن يقاضوا من حرر لبنان من الاحتلال وقدم الآلاف دفاعاً عن الأرض والسيادة. هم يستهدفون رجلاً يحذر من الفتنة ومن خطر الحرب الأهلية. هزلت”.
قصير وضع الشكوى في خانة التنكر للتضحيات التي يعتبر أن “حزب الله” قدمها في مواجهة إسرائيل، متهماً خصوم الحزب بأنهم يتجاهلون السياق الإقليمي والخطر الإسرائيلي المباشر على لبنان. كما حاول إعادة توصيف القضية من مسألة قانونية إلى معركة سياسية–إعلامية، مؤكداً أن أية محاولة لملاحقة قاسم قضائياً لن تغير في موقع الحزب ودوره الذي بات، برأيه، “ثابتاً في المعادلة الوطنية والإقليمية”.

مقاربة قانونية للشكوى 

وفي السياق، أضاء الخبير الدستوري المحامي سعيد مالك على البعد القانوني للخطوة التي أقدم عليها النواب والشخصيات السياسية، مقدّماً مقاربة دقيقة للإطار القضائي الذي قد يسلكه الادعاء على نعيم قاسم.

وأوضح مالك أن الخطوة (الشكوى المقدمة) ستُحال مباشرة من قِبل النواب والفعاليات إلى جانب النيابة العامة التمييزية بحق قاسم وكل من يظهره التحقيق. عندها، من المفترض أن تباشر النيابة العامة تحقيقاتها وتستدعي المشتكى عليهم. وفي حال عدم الحضور، وهو المرجح، يمكن أن تقوم بإصدار بلاغ بحث وتحرٍ لمدة شهر.

وأضاف موضحاً تسلسل الإجراءات “بعد انتهاء مرحلة البحث والتحري، يُفترض إحالة الملف إلى النيابة العامة الاستئنافية المختصة، ومن ثم إلى قاضي التحقيق، وذلك عملاً بالإجراءات المنصوص عليها في قانون أصول المحاكمات الجزائية”.

وختم مؤكداً أن مدى فعالية الشكوى مرهون بعنصرين أساسيين، “الأمر كله يبقى رهناً بعنصر الوقت، وبمدى جرأة النيابة العامة التمييزية في التعاطي الجدي مع هذا الملف. فإذا اتخذت النيابة العامة قراراً واضحاً بالمضي قدماً، فإننا سنكون أمام سابقة قضائية ذات بعد وطني، قد تفتح الباب أمام محاسبة قانونية لم يسبق أن طالت مسؤولين بهذا المستوى”.

القضاء كاختبار أول

الشكوى ضد نعيم قاسم ليست سوى البداية، إنها بمثابة حجر الأساس في اختبار أوسع يتصل بقدرة القضاء اللبناني على مقاربة ملفات أساسية طال انتظارها، من ملف الاغتيالات السياسية، إلى قضايا التهريب، وصولاً إلى محاسبة شبكات الفساد المرتبطة بالحزب والمنظومة الحاكمة. وإن لم يتحرك القضاء في هذه الملفات، ستبقى كل الشعارات مجرد حبر على ورق.

التحدي الأكبر يبقى في التنفيذ الفعلي لخطة نزع السلاح، وتفكيك الاقتصاد الموازي. الخطوات السياسية وضعت، لكن المعركة الحقيقية تبدأ حين تقرر الدولة مواجهة سلاح الحزب غير الشرعي، وتجفيف مصادر تمويله، عندها فقط يمكن القول إن لبنان بدأ يستعيد سيادته الفعلية.
في السياق، يرسم النائب ريفي صورة واضحة للتحولات الحاصلة في لبنان والمنطقة، قائلاً إن “الرئيس السوري السابق بشار الأسد سقط، وعلى الحزب أن يتعود على أن هناك تغييرات كبرى. لم يعد لبنان يعيش تحت رحمة الماضي، ولا يمكن لقاتل فار من العدالة أن يفرض وصايته بعد اليوم. إذا كان الأسد انتهى، فكيف بغيره؟ المرحلة تغيرت كلياً، ولن يبقى نعيم قاسم أو غيره بمنأى عن المحاسبة”.

وأكد ريفي أن “الخطوة القضائية في حق قاسم ليست مبادرة فردية، بل ثمرة تنسيق سيادي واسع”. وأضاف “سأتواصل مع جميع النواب السياديين، من حزبي القوات اللبنانية والكتائب، إلى النواب ميشال معوض ومروان حمادة وغيرهم ممن يشبهوننا في الموقف الوطني. حتى الآن لدينا أربعة توقيعات، لكننا نسعى إلى أن ينضم إلينا الجميع. هذه ليست قضية شخصية، بل واجب وطني”.
وشدد على أن هذه الشكوى ستقدم باسم النواب أنفسهم، “لسنا هنا لنكرر أساليب ’حزب الله‘ في الاغتيال والتهديد والزعرنات. نحن أبناء دولة، نلجأ إلى القضاء ونؤمن بالعدالة. قد يبدو الأمر غير مألوف أن يستدعى الشيخ نعيم قاسم للتحقيق، لكننا في مرحلة جديدة، لقد انتهى زمن الحصانات الوهمية”. وختم ريفي قائلاً إن “هذه الشكوى بداية مسار تحرر وطني ينهي عقوداً من الهيمنة، إنها معركة دولة ضد اللادولة، ومعركة سيادة ضد الفوضى، وسنخوضها حتى النهاية”.

إعلاميون وناشطون يرفعون الصوت

لم يقتصر التحرك القضائي على النواب والسياسيين فقط، إذ تقدم قبل أسابيع مجموعة من قادة الرأي والإعلاميين بإخبار قضائي منفصل ضد قاسم. جاء ذلك، بحسب ما أعلنوا، بعد “الخطاب التهديدي” وغيره من التصريحات التي اعتبروها خروجاً عن القانون، وتعبيراً علنياً عن رفضهم لفرض السلاح والتهديد على المجتمع.
وأكدوا حينها أن المواجهة لا تقتصر على الأطر السياسية وحدها، بل يجب أن تشمل المجتمع المدني والإعلام، كونهما جزءاً من منظومة الضغط التي يمكن أن تحرر القضاء من رهانه السياسي أو الأمني.

هذا التحرك المتعدد الاتجاهات، من النواب إلى الصحافة والمجتمع المدني، عكس إدراكاً جماعياً بأن الطريق لتأكيد سيادة الدولة يبدأ من الشارع والمدن، وصولاً إلى المحكمة.