
الموفدون إلى لبنان بين تثبيت السيادة وتعقيدات الإقليم
يشهد لبنان حركة متصاعدة للموفدين العرب والأجانب، تتصدرها زيارات الوفود الأميركية التي تحمل معها رسائل متعددة الأبعاد، تجمع بين الدعم السياسي والاقتصادي من جهة، ومحاولة رسم ملامح الدور اللبناني في المرحلة المقبلة من جهة أخرى.
في اللقاءات الأخيرة بين الرئاسة اللبنانية ووفود أميركية رفيعة المستوى، برز التركيز على مسألة دعم الجيش اللبناني باعتباره المؤسسة الضامنة للاستقرار الداخلي والجهة الوحيدة القادرة على تثبيت سلطة الدولة على كامل أراضيها.
وقال مصدر سياسي بارز لـ«الأنباء»: «هذا التركيز لم يأت من فراغ، بل يعكس قناعة دولية متزايدة بأن أي مشروع استقرار في لبنان لا يمكن أن يتحقق من دون تقوية الجيش وتعزيز قدراته لوجستيا وماليا. فالأوضاع الاقتصادية الصعبة جدا انعكست في شكل مباشر على الموازنة العسكرية، الأمر الذي جعل لبنان يطالب بزيادة الدعم الخارجي لتأمين المعدات والتجهيزات وتمكين الجيش من توسيع انتشاره، خصوصا في الجنوب حيث تتقاطع الحسابات اللبنانية مع التعقيدات الإسرائيلية».
وأوضح المصدر ان «الرسائل اللبنانية بدورها كانت واضحة» السيادة الوطنية غير قابلة للتجزئة، والحدود الدولية المعترف بها ليست موضوعا للتفاوض أو الاقتطاع. هذا الموقف، وإن بدا بديهيا، إلا أنه يشكل حجر الزاوية في المفاوضات الجارية حول مستقبل الحدود والقرارات الدولية المرتبطة بها. من هنا، جاء التشديد على ضرورة انسحاب القوات الإسرائيلية من النقاط المحتلة، الأمر الذي يفتح المجال أمام الجيش اللبناني لاستكمال انتشاره وفق القرار 1701 وما يتفرع عنه من التزامات».
في المقابل، أشار المصدر إلى ان «المباحثات حملت بعدا سياسيا واقتصاديا لا يقل أهمية، إذ طرح الجانب الأميركي أوراقا ومبادرات تتعلق بوقف العمليات العسكرية على الحدود وإطلاق الأسرى اللبنانيين، إضافة إلى مساهمة الدول المانحة في عملية إعادة الإعمار. هذه الملفات تتقاطع مع أولويات لبنانية داخلية، أبرزها إنعاش الاقتصاد الذي بات في قلب كل معادلة سياسية وأمنية، باعتباره الركيزة الأساسية لأي مشروع استقرار طويل الأمد. من هنا، سعت بيروت إلى ربط أي تقدم ميداني أو تفاهمات أمنية بضرورة إشراك المجتمع الدولي في تحمل مسؤولياته تجاه إعادة بناء ما دمرته الحرب الاسرائيلية على لبنان».
ولا يمكن فصل هذه الزيارات عن السياق الإقليمي الأوسع. فلبنان يقف عند تقاطع بين التطورات الجارية في غزة والجنوب، وبين المعادلات الإقليمية التي تشمل سورية والعراق وإيران. ولفت المصدر إلى انه «من هنا جاء التذكير بأن التنسيق الأمني مع دمشق لا يزال قائما، خصوصا فيما يتعلق بضبط الحدود المشتركة، وهذا عامل أساسي لتفادي انتقال الفوضى إلى الداخل اللبناني. هذا التنسيق، على رغم تعقيداته السياسية، يشكل ضرورة عملية في ظل دقة الوضع الداخلي والتحديات التي يفرضها الإرهاب والتهريب».
ورأى المصدر في حركة الموفدين الدوليين والعرب إلى بيروت، بما تحمله من مقترحات وضغوط وتطمينات، انها «تعكس إدراكا متزايدا بأن لبنان ليس مجرد ساحة جانبية، بل هو عنصر أساسي في معادلة الاستقرار الإقليمي. فالجيش اللبناني، الذي يطلب دعما عاجلا لزيادة انتشاره في الجنوب، يشكل بالنسبة إلى الدول الغربية صمام أمان لمنع الانزلاق إلى مواجهة شاملة. أما الداخل اللبناني، فيسعى إلى الموازنة بين هذه الضغوط الخارجية وحاجاته السيادية والاقتصادية، في محاولة لتثبيت موقعه كدولة كاملة السيادة لا كساحة صراع بين الآخرين».
ويمكن القول إن الحراك الديبلوماسي الكثيف يعكس سباقا بين مسارين: مسار يسعى إلى ترسيخ الاستقرار عبر تقوية الجيش وضمان الانسحاب الإسرائيلي وتأمين الدعم المالي لإعادة الإعمار. ومسار آخر يحاول إعادة إنتاج لبنان كمنطقة نفوذ وصراع بين القوى الدولية والإقليمية. نجاح الأول أو تغليب الثاني سيحدد مستقبل لبنان في المرحلة المقبلة، بين أن يكون شريكا كاملا في معادلات المنطقة، أو مجرد ورقة تفاوض في أيدي اللاعبين الكبار.