المسيحيّون ينتظمون حول “الحصريّة”: لحظةٌ سياسيّةٌ نادرةٌ

المسيحيّون ينتظمون حول “الحصريّة”: لحظةٌ سياسيّةٌ نادرةٌ

الكاتب: بتول يزبك | المصدر: المدن
23 آب 2025

هي من المرّات القليلة الّتي تتقاطع فيها معظم القوى والقيادات المسيحيّة على عناوين سياسيّةٍ واضحةٍ، وتقرّر – ولو موقّتًا – التّراجع خطوةً عن نزاعاتها السّلطويّة وصراعاتها الضّيّقة. يتقدّم هذه المرّة شعارٌ واحدٌ: القرار السّياديّ. قرارٌ يقضي بحصريّة السّلاح بيد الدولة، ورفض خطاب التّخوين والتّهويل، ورفض سلوكيّات الاستقواء والفرض. في هذا الالتقاء، غير المنسّق وغير المصطنع، ما يكفي ليبنى عليه؛ إذ يبدو أنّ المسيحيّين، على اختلاف مواقعهم، “ينتظمون” حول معادلةٍ تقول: لا دولة من دون احتكارها الشّرعيّ للقوّة، ولا استقرار من دون مؤسّساتها حَكمًا وَحُكمًا.

يطلُّ هذا الانتظام في توقيتٍ محمّلٍ بإشاراتٍ متناقضةٍ: ازدحام زيارات شخصيّاتٍ وموفّدين إلى بيروت، كان آخرهم الأميركيّان توم باراك ومورغان أورتاغوس، وسبقتهما زيارة أمين مجلس الأمن القوميّ الإيرانيّ علي لاريجاني، وارتفاع منسوب الغموض إزاء المرحلة المقبلة: أهي هدنةٌ تثبّت أم ضغطٌ مضاعفٌ؟ وفوق هذه الطبقات، بثّت تصريحات نعيم قاسمٍ، الأمين العامّ لـ”حزب الله”، إشاراتٍ تصعيديّةً قرأها كثيرون تلويحًا بإمكان اهتزاز السلم الأهليّ إذا مضت الحكومة بخياراتها. هكذا وضع النّقاش داخل البيئة المسيحيّة. ومن خلالها داخل المشهد اللّبنانيّ الأوسع ـ أمام سؤالٍ مركزيٍّ: كيف نخرج من معضلة السّلاح من دون أن نسقط في فخّ الفوضى؟

تدريجيًّا”: مفردةٌ جديدةٌ تعيد تركيب المشهد

ما بدا لافتًا في المداولات الّتي رافقت الزيارات الأخيرة ليس فقط عناوينها المعلنة، بل المفردات الّتي استخدمت. هنا يلتقط النائب غسّان عطاللّه، عضو تكتّل “لبنان القويّ”، خيطًا دقيقًا: للمرّة الأولى يرد على لسان موفّدٍ أميركيٍّ تعبير “تدريجيًّا”. أي الذّهاب إلى مقاربةٍ تبادليّةٍ، خطوةً مقابل خطوةٍ، بدل المطالبة بأن “يفعل لبنان كلّ شيءٍ دفعةً واحدةً”. يقرأ عطاللّه في هذا التّحوّل مضمونًا مختلفًا عن الخطاب الغالب في الأشهر الماضية: الاعتراف بالحاجة إلى الوقت والحوار والضّمانات. وبالمعنى السّياسيّ، يعني ذلك أنّ “نزع السّلاح” لم يعد شعارًا مجرّدًا يرفع من دون شبكات أمانٍ، بل وظيفةً تفاوضيّةً ضمن مسارٍ يفترض أن يقدّم فيه كلّ طرفٍ ما يبدّد هواجس الطّرف الآخر.

من هذه الزّاوية، يترسّخ داخل الفضاء المسيحيّ إدراكٌ براغماتيٌّ: أنّ الخروج من مأزق السّلاح لا يكون بالاشتباك الرّمزيّ ولا بالقطيعة الشّاملة، بل بمسارٍ يراكم الثّقة، شرط أن تبقى البوصلة ثابتةً: الدولة مرجعيّةٌ وحيدةٌ في الأمن والحرب والسّلم. لذلك، حين يلوّح أيّ طرفٍ “بالحرب الأهليّة” ـ كما يعبّر عطاللّه ـ تصبح مسؤوليّة الجميع أن يعودوا إلى سقف الدولة، وأن يدار الخلاف بالسّياسة والمؤسّسات لا “بالشّارع”.

ملفٌّ لبنانيٌّ خالصٌ”: الحصريّة ليست وظيفة ضغطٍ خارجيٍّ

على ضفّةٍ أخرى من المشهد المسيحيّ، يذهب النائب أنطوان حبشي، عن “الجمهوريّة القويّة”، في حديثه إلى “المدن” إلى تثبيت بديهيّةٍ يعتبرها مؤسّسةً: قيام الدولة وسيادتها “ملفٌّ لبنانيٌّ خالصٌ”. لا ينبغي أن يرتبط هذا الاستحقاق بزيارة موفّدٍ أو بتشجيع عاصمةٍ. فمنذ 2005، تقول “القوّات اللّبنانيّة”، كان موقفها صريحًا: لا دولة خارج حصريّة السّلاح بيدها. يضيف حبشي ما هو أبعد من المبدإ: القرارات تتّخذ داخل الدّستور والمؤسّسات الشّرعيّة، لا خارجها، وأنّ “الثّنائيّ” بما يملكه من وزنٍ ديموغرافيٍّ وقدرةٍ سياسيّةٍ مدعوٌّ لأن يكون شريكًا كاملًا في هذا الإطار المؤسّسيّ لا فوقه.

أمّا في الإصلاحات، فيستغرب حبشي أن ننتظر ضغطًا أميركيًّا أو دوليًّا للقيام بما هو مصلحةٌ لبنانيّةٌ خالصةٌ. ما وصلنا إليه ـ فسادًا وانهيارًا ـ نتاج سوء إدارةٍ، والعلاج قرارٌ سياديٌّ في ذاته: أن نبادر، لا أن نقاد. لذٰلك، فإنّ لحظة “الإجماع الحكوميّ” ـ بعد انسحاب وزراء “الثّنائيّ” ـ على مسألة الحصريّة، تبدو له فرصةً لتكريس صيغةٍ جامعةٍ تضع الدولة في موقع من يتولّى “كامل المسؤوليّة” في الدّفاع عن السّيادة على الحدود الشّرقيّة والجنوبيّة معًا. وبهذا المعنى، يخاطب خطاب حبشي الهاجس المسيحيّ القديم – الجديد: أن تكون الدولة إطار الشّراكة الوحيد بين اللّبنانيّين، وأن تخرج أيّ قوّةٍ مسلّحةٍ من خارجها من معادلة القرار. ولكنّه يضيف عنصرًا واقعيًّا لا يقلّ أهمّيّةً: الشّراكة مع “الثّنائيّ” ممكنةٌ وضروريّةٌ، شرط أن تكون تحت سقف الشّرعيّة.

خطواتٌ متبادلةٌ” وتبديد الهواجس: مقاربةٌ يفترض أن تلزم الجميع

لا يتناقض هذا المنطق مع مقاربةٍ أخرى يعبّر عنها النائب آلان عون “للمدن”، وإن جاء من بيتٍ سياسيٍّ مختلفٍ. يلاحظ عون أنّ ثمّة اقتناعاً تبلور بعدم إلقاء كامل العبء على لبنان، وأنّ على إسرائيل أيضًا مسؤوليّةً في الموافقة على “خريطة الطّريق” الّتي يطرحها الأميركيّون. فالمقاربة الأحاديّة السّابقة أثبتت عقمها. هنا يصبح تبنّي مبدإ “الخطوات المتبادلة” مدخلًا عمليًّا إلى تبديد الهواجس بين طرفين يفتقران إلى الثّقة المتبادلة: “حزب الله” وإسرائيل.

يعطي عون وزنًا لدور رئاسة الجمهوريّة في دفع هذا المسار مع الجانب الأميركيّ، وإقناع الأطراف بضرورة مقابلة الخطوات اللّبنانيّة بخطواتٍ مقابلةٍ، بحيث لا يبقى لبنان الطّرف الوحيد الّذي يدفع الأكلاف السّياسيّة والأمنيّة. والأهمّ أنّ هذه المقاربة ليست مستحدثةً بالكلّيّة: هي مطروحةٌ لبنانيًّا منذ زمنٍ ـ من الرّئيس نبيه برّي إلى رئاسة الجمهوريّة ـ ولكنّها تكتسب اليوم نافذةً تطبيقيّةً إذا اقترنت بإرادةٍ تنفيذيّةٍ وتعهّدٍ دوليٍّ واضحٍ. في جوهر هذا المنطق ما يمكن أن يطمئن جزءًا واسعًا من المسيحيّين: أنّ مسار استعادة الحصريّة ليس انتحارًا سياسيًّا أو “قفزةً في المجهول”، بل عمليّةٌ مركّبةٌ تحتاج إلى ضماناتٍ خارجيّةٍ وإلى شبكة أمانٍ داخليّةٍ، من غير التّنازل عن المبدأ.

 

ماذا يعني “انتظام” المسيحيّين فعلًا؟

تجنباً للغرق في الإنشائيّاتٍ، لا بدّ من تقويم معنى هذا الانتظام. أوّلًا، هو ليس جبهةً حزبيّةً موحّدةً، ولا تحالفًا انتخابيًّا. هو أقرب إلى “تقاطعٍ” على عنوانٍ سياديٍّ يعلو فوق الحسابات اليوميّة، لكنّه لا يلغيها. بمعنًى آخر: تدرك القوى المسيحيّة أنّ موازين القوى الرّاهنة لا تسمح بـ”فرض” خياراتٍ كبرى على بقيّة اللّبنانيّين، لكنّها في الوقت نفسه ترى أنّ التّخلّي عن هذا العنوان يعني الانتحار السّياسيّ والوجوديّ داخل “صيغة” لبنان. لذٰلك تتقدّم بمشروعٍ مزدوجٍ: رفع سقف السّيادة في الخطاب، والانخراط في واقعيّة “الخطوات المتبادلة” في السّلوك.

ثانيًا، هذا الانتظام يضع “حزب الله” أمام امتحانٍ داخليٍّ صعبٍ: إذا كانت الحكومة قد اتّخذت قرارًا مدعومًا داخليًّا وخارجيًّا، وإذا كان الشّريك المسيحيّ ـ على تنوّعه ـ يثبّت قاعدة الحصريّة، فهل يذهب الحزب إلى “الشّارع” لإسقاط القرار؟ وهل يملك القدرة على ذلك بلا أثمانٍ عاليةٍ؟ هنا تكتسب دعوة عطاللّه إلى “التّهدئة والحوار” راهنيّتها: أيّ تصعيدٍ في الشّارع، أو تلويحٌ بحربٍ أهليّةٍ، سيعني خسارةً إضافيّةً في رصيد الحزب لدى شرائح لبنانيّةٍ واسعةٍ، وليس المسيحيّين وحدهم.

ثالثًا، يعيد هذا الانتظام تصويب النّقاش حول “وظيفة السّلاح”. فإذا كان جزءٌ من السّرديّة اللّبنانيّة يبرّر السّلاح بأنّه درعٌ في مواجهة الاعتداءات الإسرائيليّة، فإنّ منطق “الخطوات المتبادلة” يضع إسرائيل أيضًا أمام مسؤوليّاتها. أي إنّ الحصريّة لا تقايض بالأمن الوطنيّ، بل تبنى عبر مسارٍ يضمن الأمن ويعيد الاعتبار للدّولة في آنٍ. هذا ما يلتقي عليه خطابا آلان عون وأنطوان حبشي، وإن اختلفت الحيثيّات.

الإصلاح كجبهةٍ موازيةٍ للسّيادة

من بديهيّات اللّحظة أنّ السّيادة لا تتجزّأ. سلاحٌ خارج الدولة يوازيه، في المعنى العميق، فسادٌ ينهش مؤسّساتها. هنا يشتدّ منطق حبشي: ما الّذي يدفعنا إلى انتظار ضغطٍ خارجيٍّ لنقوم بإصلاحاتٍ هي شرط قيام الدولة أصلًا؟ الواقع أنّ الحصريّة بلا إصلاحاتٍ تظلّ حبرًا على ورقٍ، والإصلاحات بلا حصريّةٍ تظلّ بلا أدوات تنفيذٍ. وبهذا المعنى، يصبح الملفّان جبهةً واحدةً: إعادة تكوين السّلطة على أساس النّزاهة والفعّاليّة، وإعادة تكوين القوّة على أساس الشّرعيّة.

وليس تفصيلًا أنّ “الإجماع” الّذي تحدّث عنه حبشي داخل الحكومة – بعد خروج وزراء “الثّنائيّ” ـ يفتح نافذة اختبارٍ: هل تستطيع حكومةٌ “منقوصةٌ” من أكبر كتلةٍ شيعيّةٍ أن تمضي في قرارٍ بهذا الحجم من دون أن تعيد إنتاج مقاربةٍ تفاوضيّةٍ مع “الثّنائيّ”؟ أم إنّ المسار محكومٌ بواقعيّةٍ تدفع إلى طاولةٍ أوسع، تعطى فيها الضّمانات المتبادلة، وترفع فيها تدريجيًّا اليد عن أيّ سلاحٍ خارج الدولة؟

إذًا، قال المسيحيّون كلمتهم، وهم – بحسب التّعبير الّذي صدر في أكثر من لقاءٍ – متمسّكون بها. في المحصّلة، نحن أمام لحظةٍ لبنانيّةٍ نادرةٍ: التقاءٌ مسيحيٌّ واسعٌ على عنوانٍ سياديٍّ، ومجالٌ سياسيٌّ يعاد تشكيله تحت ضغط الوقائع الدّاخليّة والخارجيّة. قد لا يكون في الأمر “جبهةً” بالمعنى التّنظيميّ، لكنّه بالتّأكيد “جبهة معنًى”: استعادة الدولة كفكرةٍ ومؤسّسةٍ ودورٍ. بين التهويل بالحرب الأهليّة الّذي لوّح به البعض، ومفردة “تدريجيًّا” الّتي سرّبت على لسان موفّدين، مساحةٌ يمكن أن تشغلها السّياسة إذا امتلكت شجاعة المبدإ ومرونة الأسلوب.”