
دواء تحت الحصار: مأساة المرضى اللبنانيين بين غياب الدولة والفساد
أزمة الدواء في لبنان ليست مجرد نقص في السلع، بل انعكاس لفساد مزمن حيث تتحول صحة المواطن إلى ضحية لتجار ومافيات يشترون بحياة الناس ثمناً لأرباحهم. والحل يبدأ بتحرك جدي من وزارة الصحة والحكومة عبر تعزيز الرقابة، محاسبة الفاسدين، ودعم الشركات الشرعية، لضمان وصول الدواء الآمن إلى يد المريض دون عوائق
في لبنان، حيث تتشابك الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تتفاقم أزمة الدواء لتصبح تهديداً حقيقياً لحياة الملايين من المواطنين. ورغم شعارات الإصلاح ومحاربة الفساد، ما زال اللبناني يعاني من نقص حاد في الأدوية، وارتفاع غير مبرر في أسعارها، وانتشار واسع للأدوية المزورة والمهربة التي تسبب أضراراً صحية جسيمة قد تصل أحياناً إلى فقدان الحياة. وقد تحولت أزمة الدواء من مشكلة مؤقتة إلى كارثة صحية تعكس واقعاً مريراً يتمثل في غياب الرقابة الفعالة، وتغلغل الفساد في هذا القطاع الحيوي.
إنّ الوعود التي تلقاها اللبنانيون بتحسين الوضع الصحي وضمان توفير الدواء الآمن اصطدمت بالواقع الصعب الذي تزداد فيه معاناة المرضى يوماً بعد يوم. فبينما كان يفترض أن تتعزز الرقابة وتضبط الأسواق، استمر التهريب والتزوير، ولا تزال المافيات تتحكم بالسوق السوداء للدواء، مستفيدة من غياب الدولة وقصور المؤسسات.
في هذا السياق، يقول سهيل غريب، عضو مجلس نقابة الصيادلة، لموقع “هنا لبنان”: مع بداية الأزمة الاقتصادية والحراك الشعبي، برزت أزمة الدواء بحدة. فقد دفعت الفوضى الاقتصادية وانهيار سعر صرف الليرة بعض ضعاف النفوس من شركات وصيادلة وأفراد إلى تخزين وتهريب الأدوية وبيعها خارج لبنان مقابل الدولار النقدي، مستغلين ضعف الرقابة وغياب التزام مصرف لبنان بتغطية فروقات سعر الدولار. هذا الأمر تسبب بانقطاع الأدوية ونقص حاد في السوق المحلية، مع فقدان ثقة الشركات العالمية بالسوق اللبنانية”.
التهريب والتزوير… أزمة في أزمة
ويضيف غريب: “غياب الدواء المدعوم في السوق المحلية فتح الباب على مصراعيه أمام تهريب أدوية غير شرعية ومزورة، بعضها يصل عبر شبكات معقدة من دول مجاورة. وقد وصلت البلاد أدوية مزورة، خصوصاً لعلاج الأمراض المستعصية كالسرطان، بعضها لم يكن أكثر من ماء. وقد تدهورت حالة العديد من المرضى بشكل مأساوي نتيجة استخدام هذه الأدوية.”
ويتابع: “في حين تلاحق السلطات الصيادلة الذين تواصلوا مع هذه الشبكات، حتى وإن لم يشاركوا في البيع، لم يجرِ فتح تحقيق جدي مع قادة هذه المافيات أو الجهات التي سمحت لهم بالهرب. هذا التفاوت في المحاسبة يزيد من معاناة المريض والصيدلي على حد سواء.”
غياب الدولة وتفاوت المحاسبة
وعن غياب الرقابة والمحاسبة العادلة، يؤكد غريب: “وزارة الصحة كانت تعلم بوجود أدوية مهربة ومزورة، لكن الردود الرسمية لا تزال محدودة ومتناقضة. حين طالبنا بحماية السوق سابقاً، قيل لنا إنه لا يمكن منع دخول الأدوية لأن الدواء نفسه مفقود في لبنان. هذا الأمر بمثابة ضوء أخضر للتهريب والتواطؤ الصامت.”
ويستطرد: “كما أنّ الملاحقات القانونية اليوم تستهدف الصيادلة بشكل غير عادل، بينما يبقى الفاعلون الكبار خارج دائرة المحاسبة، ما يخلق إحساساً بالظلم ويزيد الأزمة تعقيداً”.
التجارة الإلكترونية.. سوق مفتوحة للفساد
وفي ما يتعلق بتجارة الأدوية عبر الإنترنت، يوضح غريب: “تباع كميات هائلة من الأدوية عبر صفحات إلكترونية بأسعار منخفضة وتوصيل مجاني، دون رقابة أو تراخيص، في حين يلاحق الصيادلة النظاميون. تبقى هذه الأسواق الافتراضية مفتوحة للغش والاحتيال، مما يشكل تهديداً حقيقياً لصحة المرضى.”
ويتابع: “يجب أن توقف هذه الممارسات قبل محاسبة الصيادلة، لأنها تشكل فساداً جديداً يضر بصحة المرضى ويزيد الأزمة تعقيداً.”
شهادة من قلب المعاناة
في ظل هذه الأزمة المعقدة التي لا تزال مستمرة، تظهر القصص الشخصية لتؤكد حجم المعاناة الحقيقية التي يعيشها المرضى يومياً. فبينما تتصاعد أزمة نقص الأدوية وانتشار التهريب والتزوير، يجد المواطن نفسه وحيدًا في مواجهة هذه الكارثة الصحية.
يروي جهاد، المريض بمرض مزمن وخضع لزرع كلية، قصته المؤلمة وهو في حاجة ماسة إلى دواء ضروري للحفاظ على حياته: “أصبحت مهمة الحصول على دوائي اليوم أشبه بمعركة لا تنتهي. أحياناً أجد الدواء بسعر مرتفع جداً، وأحياناً لا أجده على الإطلاق. الأسوأ من ذلك هو الخوف الدائم من تناول أدوية مزورة أو مهربة قد تؤذي صحتي أكثر مما تنفعها. أشعر أننا أصبحنا ضحايا لعبة كبيرة، حيث يعاني كل منا بمفرده بسبب غياب الرقابة وتفكك النظام الصحي. أدعو الجهات المعنية للتحرك بسرعة لحماية حقنا في دواء آمن، لأن حياتنا ليست لعبة.”
تعكس شهادة جهاد الواقع المرير الذي يعيشه الكثير من اللبنانيين، وتسلط الضوء على الجانب الإنساني للأزمة التي تبدو في ظاهرها مجرد أرقام وإحصاءات.
إنّ أزمة الدواء في لبنان ليست مجرد نقص في السلع، بل هي انعكاس لفساد مزمن وضعف مؤسسات الدولة، حيث تتحول صحة المواطن إلى ضحية لتجار ومافيات تشتري بحياة الناس ثمناً لأرباحهم. ومع استمرار الوضع على هذا المنوال، يبقى المريض اللبناني في دائرة الخطر، بحاجة إلى دواء آمن وسوق صحي نزيه ورقابة فعالة تحميه من أهوال التهريب والتزوير.
الحل… إرادة وطنية حقيقية
الحل يبدأ بتحرك جدي من وزارة الصحة والحكومة عبر تعزيز الرقابة، محاسبة الفاسدين، ودعم الشركات الشرعية، لضمان وصول الدواء الآمن إلى يد المريض دون عوائق.
في ظل هذه الأزمة المعقدة، تبقى صحة المواطن اللبناني على المحك، وسط سوق دوائي يعجّ بالفساد والتهريب. الحل الحقيقي لا يكمن في محاسبة الصغار أو تعزيز الرقابة المؤقتة فقط، بل في إرادة وطنية حقيقية تضع صحة الإنسان فوق كل اعتبار، وتعيد بناء مؤسسات الدولة لتؤدي دورها بفعالية وعدالة.
المريض اللبناني يستحق دواءه الآمن بسهولة وبدون خوف، وهذا لن يتحقق إلا بتضافر جهود الحكومة، النقابات، الجهات الرقابية، ووعي المجتمع بأهمية مكافحة الفساد بكل أشكاله. فالدواء حق، والحياة أمانة لا يجوز التفريط بها.