إسرائيل بين تطبيع الحدود مع جيرانها وسقوطها في عقليّة الحصار

إسرائيل بين تطبيع الحدود مع جيرانها وسقوطها في عقليّة الحصار

الكاتب: راغدة درغام | المصدر: النهار
24 آب 2025

الأنباء الأخيرة اللافتة أفادت بأن سوريا وإسرائيل ستوقّعان اتفاقاً أمنياً برعاية الولايات المتحدة في 25 أيلول/سبتمبر المقبل، وفي أعقاب خطاب مهم للرئيس السوري أحمد الشرع في الأمم المتحدة في نيويورك…

بعدما أُخرجت من سوريا بركلة وصفعة لم تكن واردة في حساباتها، تلهث الجمهورية الإسلامية الإيرانية ووكيلها “حزب الله” وراء العثور على وسائل لتطويق وإحباط التحوّل في سياسة سوريا نحو جيرتها في إطار ترتيب مكانتها الإقليمية والدولية بالذات عبر صفحة جديدة نوعياً بين سوريا وإسرائيل.

 

الحدث الداخلي في سوريا ما زال غامضاً رهن فرزٍ قد يأتي بمفاجآت، لكن الحدث الحدودي لافت لما له من أبعاد مباشرة مع تركيا وإسرائيل ولبنان والعراق والأردن بانعكاساتها الإقليمية والدولية؛ فطهران اعتبرت سيطرتها على سوريا حجر أساس لتموضعها إقليمياً في مشروع الهلال الفارسي للهيمنة وتصدير عقيدتها، وكانت مرتاحة تماماً لتحالفها مع روسيا والرئيس السابق بشار الأسد. وهي اليوم تقف مرتجفة غضباً عاجزة عن منع المسار الجديد لعلاقات سوريا مع جيرانها برعاية أميركية وبدعم خليجي عربي، لا سيّما أن طهران في ذعر من عدٍّ عكسي لعمليات عسكرية ضدها قد تقوم بها إسرائيل ولربما كذلك الولايات المتحدة قريباً. لكن إيران ليست وحدها على حافة المغامرات الخطيرة، بل أيضاً إسرائيل التي تكاد لا تمتلك شهوتها للإبادة والتوسّع والانتقام، ليس من إيران فحسب، بل من فكرة الدولة الفلسطينية.

الأنباء الأخيرة اللافتة أفادت بأن سوريا وإسرائيل ستوقّعان اتفاقاً أمنياً برعاية الولايات المتحدة في 25 أيلول/سبتمبر المقبل، وفي أعقاب خطاب مهم للرئيس السوري أحمد الشرع في الأمم المتحدة في نيويورك، وأن هذا الاتفاق الأمني ليس اتفاق سلام شامل بل هدفه وقف التوترات بين البلدين.

وبحسب الوكالة العربية السورية للأنباء (سانا)، فإن وزير الخارجية أسعد الشيباني اجتمع مع وفد إسرائيلي الثلثاء الماضي في نقاشات ركّزت على “خفض التصعيد، وعدم التدخل بالشأن السوري الداخلي، والتوصّل إلى تفاهمات تدعم الاستقرار في المنطقة، ومراقبة وقف إطلاق النار في محافظة السويداء”. هذا مهم لأن الخبر صدر عن الوكالة الرسمية لسوريا حول اجتماعات لوزير الخارجية مع إسرائيليين للتفاهم على ترتيبات الأمن في الجنوب السوري ضمن سلسلة لقاءات في باكو وباريس، توصلت إلى الاتفاق على حوالي 80 في المئة من النقاط، مع اتفاق الطرفين على الاستمرار في مباحثاتهما.

توصف هذه المباحثات بأنها أمنية، وهذا بحد ذاته مهم، لكنها أيضاً مباحثات سياسية غير مسبوقة. فلقد عُقِدت مباحثات بين وزير الخارجية الأسبق وليد المعلّم وإسرائيليين حول مصير العلاقات السورية – الإسرائيلية وحققت الكثير من التقدم نحو إنهاء النزاع بينهما، لكنها اصطدمت بعثرة بحيرة طبريا. تلك البحيرة التي أطاحت الاتفاق على السلام، والتي اعتُبِرت مهمة استراتيجياً هي اليوم بحيرة أصابها الجفاف.

ثقة المسؤولين السوريين بأنفسهم اليوم لدرجة الإقدام على عقد المباحثات الأمنية مع إسرائيل في خضمّ العربدة الإسرائيلية في غزة، تفيد بأن براغماتية الحكم الجديد ترتكز على الأولوية السورية حصراً وليس على تموضع سوريا إقليمياً، كما كانت العادة.

بالأمس القريب في عهد حكم عائلة الأسد، كانت القيادة الإقليمية طموحاً أساسياً في الحسابات الاستراتيجية لدمشق. حتى الآن، لا تبدو دمشق اليوم في شغف للتموضع القيادي الإقليمي. لعل مشكلاتها الداخلية تكفيها، لا سيّما أن الرئيس الشرع وطاقمه لم يتمكنا بعد من الإمساك بالأمور داخلياً، وأن الخوف ما زال يتملّك الكثيرين من احتمال تسلّط الجماعات الإسلامية المتطرفة على سوريا، بما يدمّر تماسك النسيج الاجتماعي الهش حالياً، والضروري لاستمرار وحدة سوريا مستقبلاً.

تركيز الرئيس السوري على رفض التقسيم، وقوله إن معركة توحيد بلاده بعد أعوام من الحرب “يجب ألا تكون بالدماء والقوة العسكرية”، كلام جميل يحتاج إلى المزيد من التطمينات العملية والفعلية، بدلاً من التلميح إلى تخوين أطراف سورية “تستقوي بقوة إقليمية، إسرائيل أو غيرها” كما قال. آلية التفاهم التي يتحدث عنها الشرع يجب أن تكون صادقة وصارمة ضد الذين يحاولون تدمير الآلية ويزعمون أنهم من أتباعه. ثم إن حكومة الشرع هي التي تفاوض إسرائيل، بما في ذلك على إعادة تفعيل اتفاقية فض الاشتباك بين إسرائيل وسوريا الموقّعة عام 1974 والتي أنشئت بموجبها منطقة عازلة تحت إشراف الأمم المتحدة في هضبة الجولان.

المبعوث الأميركي إلى سوريا، وسفير الولايات المتحدة لدى تركيا، توم برّاك، لعب دوراً مباشراً في دفع سوريا وإسرائيل إلى البحث في ملفات الجنوب السوري وجهود تعزيز الاستقرار في المنطقة. برّاك طلب من الشيباني إيضاحات حول مشاهد توثّق انتهاكات ضد الدروز في السويداء. واجتماعات باريس أسفرت عن الدفع نحو تفاهمات تسهم في استقرار الأوضاع ومراقبة وقف النار في السويداء.

فالوساطة الأميركية واضحة جداً في مسعاها نحو صفحة جديدة بين سوريا وإسرائيل تمهّد لاتفاقية سلام، لكن لا تقفز فوراً إليها. توم برّاك مبعوث فوق العادة للرئيس دونالد ترامب، ليس فقط إلى سوريا بل إلى تركيا التي باتت رئيسية في الحسابات الأميركية الإقليمية، كما في العلاقة الثنائية، نظراً لكون تركيا عضواً في حلف “الناتو” ولاعباً أساسياً وحاسماً في الساحة السورية.

برّاك حريص على رعاية المسيرة السورية بتنسيق ليس فقط مع تركيا بل مع الدول الخليجية العربية الضرورية لحفظ سوريا في الحضن العربي، وللاستثمار في إعادة الإعمار. إنه حريص ليس فقط على الدفع نحو تطبيع الحدود السورية مع إسرائيل بل أيضاً نحو تطبيع الحدود السورية – اللبنانية عبر ترسيمها، وعبر علاقات جديدة ونوعية غير تلك بين “الشقيقين” في زمن الأسد حين هيمنت سوريا أمنياً وسياسياً على مصير لبنان.

القاسم المشترك بين إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب والدول العربية هو الترحيب بانحسار الدور الإيراني في سوريا، وكذلك في لبنان مؤخراً. سوريا هي الأساس في استراتيجية تطويق إيران وعزلها واحتواء قدراتها على التوسّع الإقليمي. فسوريا هي الممر الأساسي لمشروع الهلال الفارسي الممتد من إيران إلى العراق إلى لبنان وأيضاً إلى الأردن. الحدود السورية مع جميع جيرانها تكبح ليس فقط تهريب المخدرات بل أيضاً تسرّب الإرهاب إلى الدول المجاورة.

لبنان يسير في الخطوات الضرورية نحو تطبيع العلاقات مع سوريا، ونحو تطبيع الحدود مع إسرائيل إذا نجحت الجهود الأميركية بإقناع إسرائيل بخطوة مقابل الخطوة اللبنانية التي تمثلت بقرار حكومي فائق الأهمية هو حصرية السلاح بيد الدولة. “حزب الله”، ووراءه إيران، ما زال يمانع تسليم سلاحه إلى الدولة، وبالتالي يغامر بنسف إمكانية إنهاء احتلال إسرائيل للتلال الخمس في لبنان، كما بعودة العمليات العسكرية الإسرائيلية ضده وضد البنية التحتية اللبنانية.

“حزب الله” أيضاً يغامر إذا ظن أن بوسعه نسف التفاهمات التي تسعى كل من الحكومة السورية والحكومة اللبنانية إلى التوصّل إليها من أجل نقل العلاقة الثنائية بين البلدين إلى الاحترام المتبادل للجيرة والمصالح والقرارات السيادية. يغامر لأنه هو الذي سيدفع الثمن، وليس لأن الحكومة السورية ستخاف وتخشى على نفسها منه. فلقد ولّى زمن “حزب الله” والقدرة الإيرانية على التلاعب بسوريا وشعبها حفاظاً على نظام الأسد وعلى المصالح والطموحات الإيرانية في منطقة البحر الأبيض المتوسط. انتهى زمن تسلّط “حزب الله” على سوريا، وكذلك على لبنان.

ستتعالى أصوات التخوين لحكومة الشرع بسبب استمرار اللقاءات بين المسؤولين السوريين والإسرائيليين فيما إسرائيل تمضي بارتكاب الجرائم الفظيعة ضد الفلسطينيين، من إبادة وتجويع وتهجير، فيما تنفّذ مشروعها لإعادة احتلال غزة ولضم الضفة الغربية. ما تقوم به إسرائيل هو جرائم ضد الإنسانية وضد القانون الدولي. إنها تنسف فكرة قيام دولة فلسطينية في إطار حل الدولتين الذي يلقى شبه إجماع دولي، وتقوم بتمكين المستوطنين لإطاحة حل الدولتين.

لكن هذا لا يشكّل أساساً لتخوين الحكومة السورية التي تحاول إنقاذ أرضها من البراثن الإسرائيلية. فسوريا الجديدة لا تكابر ولا تتظاهر بأنها زعيمة القضية الفلسطينية، كما فعلت الحكومة السابقة التي تبنّت الفصائل الفلسطينية المسلّحة المتناحرة ضد بعضها البعض على حساب الفلسطينيين وتاجرت بهم من أجل نفسها. سوريا اليوم تطبّع الحدود مع إسرائيل صيانة لمصالحها وسعياً وراء لجم إسرائيل عن احتلال أراضيها. هذا ليس ذلك “التطبيع” الذي بات ذخيرة تخوين في المزايدات العربية.

وما تقوم به إسرائيل من جرائم لا يلقى ما تستحقه من عقاب، لا من أوروبا ولا من أميركا ولا من الدول العربية أو تركيا أو إندونيسيا أو الهند أو الصين أو غيرها. لا أحد يتخذ إجراءات بحجم الانتهاكات الإسرائيلية. التعاطف مع الفلسطينيين والتغيير الملحوظ نحو إسرائيل في صفوف الرأي العام والحكومات والأحزاب عالمياً ليس كافياً لإرغام إسرائيل على التوقف عن إجراءاتها الإبادية والتي ازدادت حدّة انتقاماً من الحشد الدولي للاعتراف بالدولة الفلسطينية.

السفير الأميركي لدى إسرائيل، مايك هاكابي، برّر عملياً إجراءات وخطة فصل شمال الضفة الغربية عن الجنوب، واعتبر أنها لا تشكّل انتهاكاً للقانون الدولي، فيما هي رد فعل على قرار الدول الأوروبية الاعتراف بدولة فلسطين.

بل إن هاكابي كان الأوضح بين المسؤولين الأميركيين حين قال إنه ليس لدى واشنطن حالياً رغبة لدعم حل الدولتين، وهو ليس أولوية، وأن اللوم يقع على الفلسطينيين في فشل حل الدولتين، بسبب 7 تشرين الأول/ أكتوبر.

إدارة ترامب تسير على حبل مشدود بين تدليلها لإسرائيل وإغداقها بالمكافآت والشراكة في الحروب والحفاظ على تفوقها العسكري النوعي، وبين إدراكها أن حليفتها إسرائيل ترتكب الجرائم والفظائع المنافية للقانون الدولي والتي تورّط أميركا كشريك في الإبادة والتهجير والتجويع.

إدارة ترامب ترتكب خطأً إذا استمرت في الموقف الذي عبّر عنه هاكابي، أي عدم الرغبة بدعم حل الدولتين، بل إنها تغامر بنسف سياساتها الإقليمية برمّتها إذا استمرت بغض النظر، بل بدعم الأمر الواقع، لمشاريع إسرائيل بإعادة احتلال غزة وضم الضفة في إطار الحلم التوراتي بإسرائيل الكبرى. فلا مجال للتطبيع بين السعودية وإسرائيل في ظل هذا التطور، ولا بين سوريا وأيّ دولة عربية إضافية للدول التي طبّعت، وقد تضطر لأخذ خطوة إلى الوراء.

مرة أخرى، الفارق مهم بين تطبيع الحدود بين الدول تجنباً لقضم المزيد من الأراضي، كما تفعل سوريا مع إسرائيل، والتطبيع مع حكومة وشعب إسرائيل الكبرى التي ستعيش دوماً ضمن عقلية الحصار مطوّقة بجشعها، معزولة بجرائمها القبيحة.