
لا تنتظروا نزع السّلاح قريباً
شكّل قرار الحكومة اللبنانية بحصر السلاح بيد الدولة منعطفاً تاريخيّاً في مسار الدولة اللبنانية، إذ وضع للمرّة الأولى قاعدة واضحة: لا سلاح شرعيّاً إلّا سلاح المؤسّسات الرسميّة. أدرج القرار سلاح “الحزب” في خانة “اللاشرعيّة” من دون أيّ تسويات ومسايرات لغويّة بشأن ما يسمّى “المقاومة”.
هذا المنعطف، على أهمّيّته، ليس سوى الفصل الأوّل من معركة طويلة. فالتنفيذ الفعليّ هو نقطة تحوُّل أخرى مستقلّة، تنتظر ظروفاً داخليّةً وخارجيّةً ما تزال بعيدة عن الاكتمال: فلا مستوى التوافق السياسي الداخلي يشمل انخراط شريك شيعي وازن في الكتلة الداعمة لقرار نزع السلاح، ولا توتّرات البيئة الإقليمية في غزّة وسوريا وتداعيات الحرب الإسرائيلية الإيرانية خفّت، ليتحرّر لبنان من ثقلها، ولا الواقع الإيراني المأزوم برمّته يتيح لطهران التفريط بذراعها الأبرز في الشرق الأوسط.
يدرك “الحزب” هذا الواقع، وسيسعى إلى إبقاء الأمور مضبوطة تحت سقف هذه المعطيات، لتمرير الوقت أو انتظار تبلور معطيات جديدة تكون أقلّ ضغطاً عليه.
خيار الحرب غير متوفّر
لا يملك “الحزب” حتماً خيار التصعيد ضدّ إسرائيل، وفتح جبهة يهرب إليها من السجال الداخلي، وإن كان البعض فيه، من الأجيال القياديّة الأصغر، يتوهّم أنّ هذا المسار يعيد فرض “الحزب” قوّةً لا يمكن تجاوزها. أمّا المخضرمون فيعرفون كلفة مغامرة أخرى بعدما ذاقوا أهوال حرب 2024 التي أثبتت فيها إسرائيل أنّها قادرة على ضرب البنية التحتية لـ”الحزب” بدقّة مذهلة وكلفة بشريّة عالية، وصلت إلى اغتيال الراحل حسن نصرالله.
من غير الوارد أيضاً، على الرغم من مستويات التهويل “الكربلائيّة”، تحويل بقايا السلاح إلى أداة ترهيب داخلية وإشعال الشارع على نحو واسع أو تعطيل مؤسّسات الدولة بشكل استراتيجي كما حصل مراراً منذ حرب تمّوز 2006. فالبيئة الشيعية نفسها مرهقة من الحروب وتبعات الانهيار الاقتصادي، ولن تتحمّل بسهولة مغامرة جديدة ضدّ الجيش أو باقي اللبنانيّين.
اللافت في هذا السياق أنّ موقف حركة أمل، ينطوي على تمايز حقيقي للمرّة الأولى منذ “حرب الأخوة” بين “أمل” و”الحزب” في ثمانينيّات القرن الماضي، وعلى نحو يسمح بالرهان الحذر على معطى شيعي جديد قد يتبلور إلى ما هو أبعد من تمايز ظرفيّ.
أقصى ما يمكن لـ”الحزب” اللجوء إليه هو “نصف تصعيد”، أي توتّرات مضبوطة ومحدودة من باب الابتزاز والتهديد باحتمال الانهيار الأهليّ الشامل.
نصف امتثال
إزاء ذلك يبقى الخيار الثالث هو الأرجح، أي سياسة “نصف امتثال”، بحيث يقبل “الحزب” بتسليم بعض المواقع الرمزيّة شمال الليطاني للجيش مع الاحتفاظ بالمخازن الأساسيّة الباقية في البقاع وبعلبك والضاحية والنبطية والزهراني.
لئن هذا الخيار لا يوقف الاستنزاف الإسرائيلي المستمرّ أو يلغي الضغط الداخلي المتصاعد، يمنح “الحزب” وقتاً يحتاج إليه لالتقاط أنفاسه وإعادة ترميم سرديّته وبناء استراتيجياته على المديَين القريب والمتوسّط.
في لعبة المصائر بات “الحزب” ومعه لبنان وجهاً لوجه، أمام الحقائق التي لطالما جرى التحايل بشأنها، وهي أنّ مصير “الحزب” مرتبط بمصير طهران نفسها. إذا نجحت إيران في إعادة إنتاج نفسها كقوّة إقليمية، قد يستعيد “الحزب” بعض الدعم والشرعيّة. أمّا إذا تعثّر مشروعها الثوريّ أكثر، وهو الأرجح، فلا مفرّ من دخول “الحزب” في حلقة جديدة من حلقات التراجع.
لا خلاف على أنّ إيران تعيش أصعب لحظاتها منذ عام 1979. النظام الذي تأسّس على شرعيّة “الثورة الدائمة” دخل طور الشيخوخة، حيث تتآكل حيويّة مؤسّساته، وتُطرح أسئلة ملحّة عن مرحلة ما بعد المرشد علي خامنئي، وسط غياب التوافق على وريث شرعيّ يضمن وحدة هرم السلطة، إلى جانب غياب هويّة الوريث نفسه بعد مقتل قاسم سليماني ووفاة الرئيس الأسبق إبراهيم رئيسي.
نهاية الممرّ البرّيّ
في الإقليم، الذي كان يُفترض أن يشكّل عمقاً استراتيجيّاً لمشروع “تصدير الثورة”، مثّلت خسارة سوريا بعد سقوط نظام الأسد الاختراق الأعمق لبنية المحور الإيراني كلّه، بشكل أعاد رسم موازين القوى في المنطقة على حساب المشروع الخمينيّ، وأعلن نهاية “الممرّ البرّي” الممتدّ من طهران إلى المتوسّط.
أمّا الضربات المباشرة التي تلقّتها إيران داخل أراضيها واستهدفت هيكلها العسكري البشري وإمكاناتها المادّية ومشروعها النووي، فقد مثّلت انكشافاً غير مسبوق لهيبة الردع التي طالما تباهت بها طهران. يُضاف إلى ذلك مأزق اقتصادي واجتماعي متراكم، تعزّزه العقوبات الدولية الخانقة وتآكل العقد الاجتماعي مع جيل شابّ لم يعد يرى في شعارات 1979 سوى لغة ماضويّة منفصلة عن واقعه ومهدِّدة لمستقبله.
يضع هذا كلّه “الحزب” في موضع بالغ الهشاشة، يعتمد فيه كلّياً على راعٍ خارجيّ يمرّ بأزمة وجوديّة، وهو معرّض لضربات إسرائيلية دقيقة تؤكّد مدى انكشافه، ومطوّق بقرار لبناني رسمي لأوّل مرّة في تاريخه.
مهما يكن من أمر، فما تغيّر فعلاً هو أنّ لبنان الدولة أعلن رسميّاً أنّ زمن الاستثناء انتهى. منذ عام 2006 ظلّ قرار مجلس الأمن 1701 حبراً على ورق، لكن اليوم يوجد قرار حكوميّ صريح يضع الجيش في موقع المسؤوليّة المباشرة عن تثبيت واقع أنّ السلاح خارج الدولة أصبح عبئاً لا يمكن الاستمرار في تجاهله.
بداية مسار طويل
إذاً المشهد ليس “تفكيكاً وشيكاً” لـ”الحزب” ولا “انتصاراً مقاوِماً” كما يروّج أنصاره. نحن أمام بداية مسار طويل من التآكل المنظّم، نتيجة سقوط الشرعية في الداخل وسقوط القدرة في مواجهة إسرائيل، وترنّح الضمانة الإيرانية.
لم يعد السؤال: هل يتخلّى “الحزب” عن سلاحه؟ بل: متى تكتمل عمليّة التآكل؟ وبأيّ كلفة؟ وأيّ لبنان يولد من رحمها؟
إنّه مشهد لم يعرفه “الحزب” منذ تأسيسه قبل أكثر من أربعين عاماً: لحظة مواجهة عملاقة مع تاريخ كامل من الاستثناء والهيمنة.