
قصة منتحلّ الصفة الذي جمع بين الاحتيال والتحرّش
قصة منتحلّ الصفة الذي جمع بين الاحتيال والتحرّش
قضية مجتمعٍ بأكمله يخوض معركة طويلة ضد “النصابين المتسترين بصفة رسمية”
منتحل صفة الصحافي، نصّابٌ متعدّد الوجوه، متحرّش مكشوف، و”بطل” في استغلال عوز النساء وحاجة الشباب الباحثين عن العمل. إنّه حيدر الحسيني، الرجل الذي عاش سنوات من الابتزاز والاحتيال خلف أقنعة مختلفة، قبل أن تضع قوى الأمن حدّاً لمسيرته “المُعتمة” بتوقيفه أخيراً. لكن سقوطه لم يكن وليد اللحظة، بل هو حصيلة مسار طويل من الفضائح والشهادات، وصوت صحافيات قررن فضح المستور في وجه مجتمعٍ صامت.
بداية الحكاية: إعلانٌ عن وظيفة ينتهي بالابتزاز
انتشر مؤخراً تسجيل مصوّر عبر وسائل الإعلام يظهر فيه أحد الأشخاص وهو يوهم ضحاياه بقدرته على تأمين وظائف لهم ضمن منظمات دولية. لم يطلب الأمر سوى تحويل مبلغ مالي عبر مراكز تحويل الأموال، يتراوح بين 60 و300 دولار أميركي. في المقابل، كان يعد ضحاياه بوظيفة مرموقة براتب شهري يبلغ 800 دولار، على أن يبدأ العمل خلال يومين فقط. لكن ما إن يحوّل الضحية المال حتى يُحظر رقمه ويُقطع الاتصال.
لم يطل الأمر حتى أصدرت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي – شعبة العلاقات العامة بياناً، كشفت فيه أنّ المسؤول عن هذه الأفعال ليس سوى: ح. ح. (مواليد عام 1981، لبناني).
وجاء في البيان أنّه وبعد تحريات مكثفة، تمكنت مفرزة الضاحية الجنوبية القضائية في وحدة الشرطة القضائية من توقيفه. وبالتحقيق معه، اعترف الحسيني بقيامه بعمليات احتيالية منذ نحو عامين، منتحلاً صفة موظف رسمي في وزارة المالية. وخلال مداهمة مكان إقامته، ضُبطت عدة هواتف كان يستخدمها للتواصل مع ضحاياه، إضافة إلى جهاز كمبيوتر يحوي مستندات مزورة على أنها صادرة عن منظمات دولية.
الأخطر كان العثور على مقاطع مصورة ذات طابع فاضح، عائدة لإحدى الضحايا، قام بتصويرها دون علمها أو موافقتها. وبناءً على إشارة القضاء المختص، عمّمت القوى الأمنية صورته، داعيةً كل من وقع ضحية أعماله إلى الحضور إلى مركز المفرزة في الأوزاعي أو الاتصال على الرقم المخصص لتقديم الشكاوى.
لكن هذا البيان الأمني لم يكن سوى الفصل الأخير في رواية طويلة، سبقها الكثير من الشهادات والفضائح التي طالت الرجل.
شهادة أولى كسرت جدار الصمت: الصحافية رانيا حمزة
لم تكن الإعلانات “المشبوهة” التي ينشرها الحسيني وليدة الأمس. على مدى سنوات، شكّك كثيرون في صدقية نشاطاته. لكن شجاعة الصحافية اللبنانية رانيا حمزة شكّلت منعطفاً أساسياً في كشف المستور.
فمنذ أكثر من سنتين، خرجت حمزة بشهادتها الصادمة، ووصفت أسلوب الحسيني بأنه “تشييء النساء والاتجار بأجسادهن، برضا وسكوت الدولة”. قالت بوضوح إنّ سجله القانوني مليء بالقضايا، من نصب واحتيال إلى تحرش وابتزاز، لكن الجهات الرسمية لم تتخذ بحقه أي موقف حاسم.
أثناء “المقابلة الوظيفية المفترضة”، واجهت رانيا شخصاً لا يخجل من طلبه المباشر: “أنا ما بحب أتحرّش بالبنت بعد ما وظّفها، أنا بقلها يلي عندي من أول الطريق”. بكلمات أخرى، لا وظيفة من دون “الخدمات الجنسية”.
رانيا روت كيف جاهر الحسيني أمامها بطلباته: “حدد لي ساعتين فقط لأعطيه الجواب… ليس جواباً عن المهام الوظيفية، بل عن مدى استعدادي لتقديم الخدمات الجنسية”.
وفي استعراض فجّ لغروره، قال لها إن “الجنس” ليس مطلوباً من جميع الموظفات، بل محصور فقط بـ”مديرة مكتبه”. وراح يروي لها مغامراته الجنسية المزعومة، مدعياً أنّ “معظم الإعلاميات اللواتي يظهرن على الشاشة قد مررن معه”!.
تصف حمزة مشاعرها بالقول: “بقيت لساعات أشعر بالصدمة والإهانة. المقابلة لم تكن سوى تشييء واستبداد واستغلال للنساء”.
سجل طويل من الفضائح: نصّاب محترف بوجه إعلامي
ليست فضيحة رانيا حمزة الوحيدة. سجل الحسيني مليء بالفضائح، منها:
2020: استغلال فترة الحجر الصحي لبيع بطاقات صحفية مزوّرة، يوزعها على غير الصحافيين مقابل مبالغ مالية. وقد أكدت نقابة محرري الصحافة اللبنانية أنه ليس عضواً فيها، بل يستغل تشابه اسمه مع صحافي آخر مسجل رسمياً.
2021: أوقف في مطار بيروت أثناء محاولته السفر إلى تركيا، بناء على شكاوى رفعها رجال أعمال وصحافيون اتهموه بالنصب والتحرش.
2022: كشفت إحدى الناجيات أنّه كان يدير “مكتب توظيف وهمي”، يوهم الشباب والشابات بفرص عمل في قطر مقابل مبالغ تتراوح بين 250 و500 دولار، من دون أي أوراق تثبت الدفع.
في كل مرة كان يُكشف فيها، كان يُوقف ليخرج بعد فترة قصيرة ويستأنف نشاطه وكأن شيئاً لم يكن. هذا ما جعل كثيرين يعتقدون أنه محمي من جهات نافذة.
أصوات أخرى فضحت الأساليب
الناشطة سارة شيخ علي حذرت عبر فيسبوك من شركة توظيف وهمية تدعى “ستار كور”، كان يديرها الحسيني. قالت إنها صادفت إعلاناً يطلب موظفين لجمعية براتب 900 دولار وبدل نقل 150 دولارا، على أن يدفع المتقدم 150 دولارا. ولما تواصلت معه لفضح الاحتيال، انهالت عليها التهديدات والإهانات.
كما أكدت سارة أنّ هناك جهة سياسية ما تدعمه، إذ أنه في كل مرة يُكشف أمره يُفرج عنه ليستكمل نشاطه.
الخوف الذي يمنع الضحايا من الكلام
اللافت أنّ كثيرات وقعن ضحايا الحسيني لكن فضّلن الصمت. المجتمع لا يرحم، والخوف من الفضيحة أقوى من السعي وراء العدالة.
إحدى الطالبات الجامعيات في قسم الصحافة – كما رويت لي – اعترفت بأنها تعرضت لمحاولة استغلال من الحسيني عبر إيحاءات جنسية مستترة. لكن حين شجعتها على تقديم شكوى، رفضت خوفاً من المجتمع والعادات.
هذا يفتح باب الأسئلة: كم فتاة تعرضت للتحرش أو الابتزاز ولم تتجرأ على الكلام؟ وكم من ضحية بقيت مجهولة لأن الخوف أسكتها؟
دعم قانوني ومساحات آمنة
في مقابل هذا الصمت القسري، برزت مبادرات حقوقية وإعلامية تحاول كسر الدائرة وتوفير حماية للضحايا.
خبيرة الحماية الأسرية رنا غنوي، التي واكبت عدداً من الناجيات، تؤكد لـ “الديار” أنّ التبليغ ممكن رغم ضغوطات المجتمع، قائلة:
“كثير من الناجيات رفضن التقدم بشكوى مباشرة خوفاً من الفضيحة، لكنهن قبلن بتقديم إفادات مخفية الاسم مربوطة بالدعوى كشهود على سوء المعاملة. أما ضحايا الاحتيال، فجميعهم تقريباً وافقوا على الإدلاء بشهاداتهم ضد انتحال الصفة والابتزاز المالي”.
وتكشف غنوي أنّ القوى الأمنية عثرت خلال مداهمة منزل الحسيني على صور ذات محتوى فاضح للناجيات، التقطها دون علمهن، مشددة على أنّ:
“رسالتنا للنساء واضحة: يمكن الإبلاغ بطريقة آمنة وسرية مع ضمان حفظ الخصوصية. الأهم ألّا يسكتن عن أي إساءة”.
أما منصة “شريكة ولكن” فقد لعبت دوراً مكملاً عبر تسليط الضوء على شهادات الناجيات. توضح المنصة لـ”الديار”:
“دورنا كان توفير مساحة آمنة للاستماع لشهادات النساء، من منطلق تصديقهن أولاً. بعضهن فضّلن أن تبقى أسماؤهن طي الكتمان، وأخريات اخترن رفع صوتهن علناً. نحن بدورنا التزمنا بالتحفظ واحترام الخصوصية”.
وتختم المنصة: “نأمل أن ينال الحسيني جزاءه، ومعه كل من يبتز الفتيات أو يستغل حاجتهن”.
بين الحماية والسلطة: كيف صمد عقداً من الزمن؟
رغم كثرة الشهادات، استمر الحسيني لأكثر من عشر سنوات في ممارساته. بعض الضحايا يؤكدون أنّه لم يبدأ قبل عامين كما جاء في بيان القوى الأمنية، بل منذ أكثر من عقد. فكيف بقي طليقاً؟
موقف نقابة الصحافة البديلة: لا للتغطية على الجرائم
من جهته، كان تجمع نقابة الصحافة البديلة من أبرز الأصوات التي ندّدت به منذ سنوات. ففي بيان سابق، حذر من “تلطي المدعو حيدر الحسيني وراء صفة امتلاك مواقع إخبارية، لممارسة جرائم الاستغلال والتحرش الجنسي بحق زميلات وطالبات جامعيات”.
ودعا التجمع الأجهزة الأمنية والسلطات القضائية إلى التحرك الفوري، ووضع حد لمدّعي الصحافة، ومحاسبة من يغطيهم أو يسهل لهم استغلال نفوذهم. كما أعلن وضع إمكاناته القانونية والحقوقية بتصرف الضحايا.
سقوط أخير… أم محطة عابرة؟
اليوم، وبعد توقيفه رسمياً من قبل قوى الأمن الداخلي، يتساءل كثيرون: هل انتهت قصة حيدر الحسيني فعلاً؟ أم أننا أمام محطة جديدة سرعان ما يتخطاها ويعود إلى نشاطه تحت غطاء جديد؟
الواقع أنّ سقوطه لم يكن ليتحقق لولا أصوات الصحافيات والناشطات اللواتي قررن فضحه، وعلى رأسهن رانيا حمزة وسارة شيخ علي وغيرهن من الصحافيات. لكن المعركة لم تنته. فالسكوت المجتمعي، والحماية السياسية، وغياب المحاسبة الصارمة، قد تعني أنّ هناك “حيدراً آخر” يتحضر للظهور.
مسؤولية الدولة والمجتمع
اليوم، الكرة في ملعب السلطات القضائية والأمنية. فالمطلوب ليس فقط محاكمته، بل أيضاً محاسبة كل من سهّل له عمله ووفّر له الغطاء. كما أنّ مسؤولية المجتمع لا تقل أهمية: حماية الضحايا، تشجيعهن على الكلام، وتفكيك ثقافة العار التي تجعل المرأة تخاف من فضح المعتدي أكثر من خوفه هو من العدالة.
إنّ توقيف الحسيني خطوة مهمة، لكنها ليست كافية. فالقضية أكبر من شخص واحد. إنها قضية مجتمعٍ بأكمله، يخوض معركة طويلة ضد “النصابين المتسترين بصفة رسمية”، وضد ثقافة الإفلات من العقاب.