
“المنطقة الاقتصادية” على الحدود مشروعُ إعمار أم تهجيرٌ جديد؟
في إطار المحادثات الجارية بوساطة أميركية بين لبنان وإسرائيل، برز اقتراح أميركي بإنشاء منطقة اقتصادية باسم “منطقة ترامب الاقتصادية” في أجزاء من المنطقة الحدودية. إلا أن الاقتراح في الأساس إسرائيلي يتعلق بإقامة منطقة عازلة منزوعة السلاح وغير مأهولة بالسكان على طول الحدود. هذا ما أكّده جزئيًا المبعوث الأميركي توم برّاك الذي قال إن “الهدف من هذه المنطقة هو منع حزب الله من إعادة ترسيخ وجوده هناك”. رغم أن الحزب قد التزم حقًا بإنهاء وجوده في المنطقة الحدودية، كأحد شروط اتفاق وقف إطلاق النار الذي لم تتوقف إسرائيل عن خرقه منذ تشرين الثاني 2024، ولا يملك الإمكانات اللازمة لإعادة التمركز فيها بعدما قامت إسرائيل بتدمير معظم بناه التحتية العسكرية والمدنية. بالتالي، فإن الحديث حول إنهاء وجود “حزب الله”، المنتهي أصلًا، يبدو في الحقيقة وكأنه حديثٌ حول إنهاء الوجود السكني.
طمأنات أميركية غير كافية
أضاف برّاك في سياق حديثه: “لدينا 40 ألف شخص تدفع لهم إيران للقتال. ماذا ستفعلون بهم؟ هل ستأخذون سلاحهم وتقولون: بالمناسبة، حظًا سعيدًا في زراعة أشجار الزيتون؟ هذا غير ممكن. علينا مساعدتهم”. وأكّد مشاركة دول الخليج العربي في إنشاء المنطقة الاقتصادية، وخصوصًا دولتي قطر والسعودية. ووفقًا للسيناتور الجمهوري ليندسي غراهام، خلال المؤتمر الصحافي الذي أجراه الوفد الأميركي في القصر الجمهوري بحضور برّاك، فإن هدف “منطقة ترامب الاقتصادية” هو فرض الاستقرار في المنطقة الحدودية وتعزيز القدرات الاقتصادية لسكان جنوب لبنان، إلى جانب حديثه عن إمكان إبرام الولايات المتحدة اتفاقية دفاعية مع لبنان بحجة الدفاع عن التنوع الديني، معتبرًا أن مثل هذه الاتفاقية هي فرصة لا تعوّض للبنان نظرًا إلى العدد القليل من الدول التي تملك الولايات المتحدة اتفاقيات دفاعية مشتركة معها. لم يقدّم غراهام المزيد من المعلومات حول المنطقة الاقتصادية، لكن الوفد المكوّن من ثلاث سيناتورات أشار إلى أن الهدف من هذه العملية، ومن ضمنها نزع سلاح “حزب الله”، هو ضمان “أمان واستقرار وازدهار لبنان”.
بعد أن أعرب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو عن نيّة تل أبيب خفض قواتها في المناطق المحتلة بشكلٍ تدريجي إذا “اتُخذت الخطوات المناسبة” وبعد “القرار التاريخي” الذي أعلنته الحكومة اللبنانية لحصر سلاح “حزب الله” في يد الدولة، رفع الحزب من سقف مطالبه ليطالب بضمانات حقيقية ووقفٍ فوري للاعتداءات الإسرائيلية وانتهاك وقف إطلاق النار. إلا أن التعقيد في المشهد الأمني لم يقتصر على رفض الحزب لقرار الحكومة اللبنانية، بل ازداد أكثر بعد انقلاب الأمين العام لـ “حزب الله” نعيم قاسم على مطلبه السابق المتمثل بـ “الخطوة مقابل خطوة” الذي تبنّته الحكومة وتمكّنت من تثبيته. ومن المحتمل أن يزداد هذا المشهد تعقيداً خلال الأسبوع المقبل، بعد إعلان قيادة الجيش اللبناني خطة حصر السلاح التي ستناقشها وتقرّها الحكومة في اجتماعها المقرّر في 2 أيلول 2025.
تناقض الاستثمار والسيادة
من وجهة نظر قانونية، يشير أحد القانونيين إلى أن الدستور اللبناني ينص في المادة الثانية منه على أن “لا يجوز التخلي عن أحد أقسام الأراضي اللبنانية أو التنازل عنه“. أما قانون العقوبات فينص في المادة 277 على أن “يُعاقب بالاعتقال الموقت خمس سنوات على الأقل كل لبناني حاول بأعمال أو خطب أو كتابات أو بغير ذلك أن يقتطع جزءًا من الأرض اللبنانية ليضمه إلى دولة أجنبية أو أن يملّكها حقًا أو امتيازًا خاصًا بالدولة اللبنانية”. غير أن تلك المادة حدّدت أن على الفاعل يجب أن يكون عند ارتكابه الفعل منتميًا إلى احدى الجمعيات أو المنظمات المشار إليها في المادتين 298 و318، ليعاقب بالاعتقال مؤبدًا، وليس إلى الحكومة اللبنانية. ففي المادة 298 (عدلت بموجب 239 /1993) يشار إلى “جمعية سياسية أو اجتماعية ذات طابع دولي أو في منظمة من هذا النوع”، وفي المادة 318 (عدلت بموجب 239 /1993) يشار إلى “كل شخص ينتمي إلى جمعية أنشئت للغاية المشار إليها في المادة السابقة”، أي إلى جمعية هدفها “إثارة النعرات المذهبية أو العنصرية أو الحض على النزاع بين الطوائف ومختلف عناصر الأمة” بحسب المادة 317 (عدلت بموجب 239 /1993).
ولا يعني تبني الدولة اللبنانية لاقتراح المنطقة الاقتصادية تنازلًا عن الأرض حسبما ينص الدستور، كما أنه لا يعني المحافظة عليها في ظل غياب الضمانات الحقيقية. إلا أنه في شتى الحالات يثير مخاوف لبنانية عميقة من أن تكون هذه الخطوة امتدادًا لاستراتيجية التوسع الإسرائيلية تحت غطاء اقتصادي، مع تزايد احتمال التهجير النهائي لسكان القرى الحدودية الذين يمكن أن يُحرَموا أيضًا من حق العمل في تلك المناطق في حال قرّرت إسرائيل ذلك بناءً على تقويمها الخاص لأولوياتها الأمنية، ولا يبدو أن هناك أي شيء يمكن أن يمنعها، فهي تفعل ما تريد منذ أن تمكنت من هزيمة “حزب الله” وفرضت على لبنان اتفاقًا هشًا لوقف إطلاق النار، ولا يبدو أيضًا أنها تقيم وزنًا للحق اللبناني، سواء وجد “حزب الله” أم لم يوجد. يمكن لهذا المقترح أن يمثل حبل خلاصٍ للجنوبيين، لكن يمكن في الوقت ذاته أن يمثل انتهاكًا خطيرًا لأمنهم وحقهم في الأرض. والمشكلة الأساسية ليست في الاقتراح بذاته، بل في أرجحية تحوّله، بعد تنفيذ المرحلة الأولى منه، أي إخلاء المناطق الحدودية من السكان، إلى مشروع ترانسفير جديد، في مقابل عدم سماح إسرائيل لعمليات تشييد المنشآت الاقتصادية بذريعة أمنها، رغم التعهدات الخليجية بالاستثمار. والخوف هو من تكريس التهجير القسري للسكان الذين يعيشون بالفعل في حالة نزوح دائمة منذ تشرين الأول 2023.
بين مخاوف مبرّرة وتفاؤل بالإكراه
الشك في النيات الأميركية والإسرائيلية ليس قائمًا على مواقف مسبقة، ولا علاقة له بخطاب “حزب الله” الذي تؤثر فيه المصالح الإيرانية التي تتحكم أيضًا بخطاب ميليشيات الحشد الشعبي التصعيدي في العراق، بل تثبته الانتهاكات الإسرائيلية اليومية. فوفقًا لتقرير جديد أعدته منظمة “العفو الدولية”، وصفت فيه الدمار الإسرائيلي في الجنوب اللبناني بأنه “جريمة حرب” وانتهاك واضح لقواعد القانون الإنساني الدولي المعمول بها، وطالبت فيه بفتح تحقيق دولي، فإن الجيش الإسرائيلي قام بتدمير آلاف المساكن المدنية باستخدام متفجرات يدوية وجرافات، وإحراق وتخريب الأراضي الزراعية، قبل وبعد وقف إطلاق النار، أي بعدما أحكم سيطرته على المناطق، وخارج إطار الأعمال القتالية، وفي غياب واضح للضرورة العسكرية القهرية.
هناك من يرى في الاقتراح فرصةً محتملة لإعادة إعمار الجنوب وتنميته اقتصاديًا، خصوصاً في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمر بها لبنان. فإذا ما تمت إدارة المنطقة الاقتصادية بعيدًا من الهيمنة الإسرائيلية المباشرة، وحظيت بإشراف لبناني ودولي عادل، فقد تساهم في خلق فرص عمل واستثمارات تعود بالنفع على السكان الجنوبيين، خصوصاً أن الاقتراح يتضمن – وفقًا لتسريبات إعلامية – بناء منشآت صناعية تابعة للدولة اللبنانية. إلا أن هذا الاحتمال الإيجابي يبقى رهينة ضمانات حقيقية تحفظ سيادة لبنان على أراضيه، وتضمن عودة النازحين إلى قراهم، وهو ما لم تقدمه إسرائيل في أي خطوات عملية.
التخوفات اللبنانية لا تقتصر على الجانب الأمني والديموغرافي فقط، بل تمتد إلى البعد الاقتصادي، فاحتمال ربط المستقبل الاقتصادي للمناطق الجنوبية بأمن إسرائيل هو خطرٌ قائم بذاته. فمن ناحية، لا شيء يضمن انسحاب إسرائيل التي تبدي سلوكًا عدوانيًا متزايدًا في سوريا ولبنان من الأراضي اللبنانية التي لا تزال تحتلها. ومن ناحية أخرى، فإن أي خطوة نحو تنفيذ هذا الاقتراح ستواجه برفض قاطع من “حزب الله”. فمصير “منطقة ترامب الاقتصادية” ليس مرهونًا بالتوازنات المحلية والإقليمية، وقدرة لبنان على الحفاظ على وحدته الداخلية وسيادته الوطنية فحسب، بل هو مرهونٌ أيضًا بأهداف إسرائيل طويلة الأجل. كما أن الموافقة السعودية والقطرية المبدئية على الاستثمار في هذه المناطق هي أيضًا مرهونة بالتغيرات السياسية التي يحفزها خطاب “حزب الله” المعرقل للوصول إلى أي حل يُذكر في المدى المنظور من جهة، وشهوانية إسرائيل العدوانية التي تدفع المنطقة نحو مزيد من الحروب من جهة أخرى.