بيروت لم تعد مكاناً خطراً للأميركيين

بيروت لم تعد مكاناً خطراً للأميركيين

الكاتب: جوني منيّر | المصدر: الجمهورية
28 آب 2025

ما من شك في أنّ زيارة الوفد الأميركي للبنان كانت بالغة الأهمية والأكثر دقّة من بين كل الزيارات التي سبقت منذ انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة برئاسة نواف سلام. فهي حملت رسائل سياسية وعسكرية واقتصادية، وأثارت كثيراً من الجدل. البعض قرأ فيها أنّها تهدف للقول إنّه لا يجب التراخي في تنفيذ مقررات مجلس الوزراء، وإنّ من غير المسموح ترك «حزب الله» ينجح في سياسة «شراء الوقت» التي يعتمدها.

وقد أحاط بهذه الزيارة كثير من اللغط، بدءاً من التشكيلة «الدسمة» للوفد الأميركي التي جمعت ما بين أعضاء في الإدارة وآخرين في المجلس التشريعي، وهو ما يُعتبر إستثنائيا في الزيارات الأميركية للبنان، ومروراً بالإستعراضات في شوارع بيروت ومطاعمها تحت عدسات الإعلام، والإعلان المسبق عنها، ومن دون الحذر الأمني الذي يرافق عادة زيارات الوفود الأميركية، وانتهاء بالتعابير النابية والصادمة للموفد الرئاسي الأميركي توم برّاك، والتي تشكّل سقطة أخلاقية كبيرة على كل المستويات، خصوصاً أنّها لم تستلحق باعتذار رسمي، ربما لعدم إيجاد تبرير منطقي لما تفوه به هذا الموفد. فالتشكيلة الأميركية تعزز الإنطباع بأنّ الملف اللبناني يحتل صدارة اهتمامات البيت الأبيض خلافاً لما كان جرى ترويجه سابقاً. لكن تصريحات مختلف أعضاء الوفد أظهرت بما لا لبس فيه، تبنّي واشنطن وجهة النظر الإسرائيلية لمسار الحلول المطروحة. وقد اقترن ذلك بـ«الهمروجة» التي رافقت تحركات أعضاء الوفد في شوارع بيروت. فتحدُّث الإعلام اللبناني مسبقاً عن حفلات العشاء التي شارك فيها أعضاء الوفد، كان يشكّل سابقاً خطيئة أمنية تؤدي فوراً إلى إلغاء المشاركة. وما حصل مع أعضاء الوفد الأميركي، خصوصاً مع التسريحة المصورة في أحد صالونات بيروت، شكّل سابقة أمنية لم تحصل منذ اندلاع الحرب عام 1975، ولهذا معناه الكبير. ذلك أنّ الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم كان استبق وصول الوفد الأميركي بخطاب ناري، أكّد فيه رفضه تسليم السلاح الذي هو في «مرتبة الروح». وتلا ذلك الإعلان عن تجمّع شعبي في الساحة المواجهة للسراي الحكومي رفضاً لقرار سحب السلاح، قبل العودة عنه بعد 6 ساعات فقط. وقيل لاحقاً إنّ هدف «الثنائي الشيعي» من الدعوة ومن ثم الرجوع عنها كان مقصوداً، ولتوجيه رسالة بأنّ خيار استعمال الشارع مطروح. لكن تحرّك أعضاء الوفد بحرّية في شوارع بيروت أظهر وجود رسالة أميركية مضادة، تقول إنّ بيروت لم تعد مكاناً خطراً أو حتى معادياً للأميركيين، وإنّ واقع لبنان تغيّر فعلاً، والمعادلة السابقة أضحت من الماضي. وليس تجول أعضاء الوفد بحرّية هو الإشارة الأميركية الوحيدة في هذا الإطار. فالسفارة الأميركية في لبنان كانت أحجمت عن إقامة إحتفال الرابع من تموز السنوي من دون توضيح الأسباب. ولكن تردّد يومها أنّ السبب يعود للإجراءات الأمنية. فالإحتفال يُقام في منطقة مكشوفة «مارينا الضبيه»، ما يفرض التأقلم مع حال الحذر الأمني المتبعة في لبنان. لكن، وفي سابقة أخرى، عمدت السفارة للدعوة إلى الإحتفال مجدداً، ولكن في أواسط أيلول. وهو ما يعني أنّ حال الحذر الأمني لم تعد قائمة. ولكن المتعارف عليه، أنّ الواقع الأمني في لبنان يخضع للقرار السياسي، وهنا يصبح السؤال عن المستجدات السياسية التي سمحت للأميركيين بهذه الحركة.

وكان لافتاً أن تتزامن زيارة الوفد الأميركي لبيروت مع إعلان وزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي إستعداد بلاده لاستئناف المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني مع الأميركيين. وجاء ذلك بعد انعقاد أول اجتماع بين مسؤولين إيرانيين كبار والترويكا الأوروبية حول البرنامج النووي منذ انتهاء الحرب مع إيران. صحيح أنّ الإجتماع لم يشهد تقدّماً حقيقياً، لكنه في الوقت نفسه لم يكن فاشلاً. ولكن هذه الحركة الإيرانية في اتجاه واشنطن خصوصاً، تُظهر أنّ هامش المناورة أصبح ضيّقاً جداً، وأنّ الواقع بات يدفع لفتح الأبواب أمام التسويات والتفاهمات السياسية، لا الرهان على مواجهات عسكرية جديدة، خصوصاً وسط تحريض إسرائيلي دائم بأنّ طهران لا توقف النار بل تعمد إلى إعادة تذخير أسلحتها. ويأتي ذلك في وقت يقوم الجيش الأميركي بالتخفيف من وجوده في مختلف مناطق الشرق الأوسط وساحاته، إيذاناً منه بأنّ الحروب انتهت على الأقل في الوقت الراهن.

وإيران التي تعمل على استخلاص دروس الحرب وإعادة ترميم قوتها وإصلاح الخلل الذي اعترى منظومة القيادة العسكرية، تدرك أنّ عليها إعادة خلط أوراقها الأمنية والعسكرية مجدداً، ولو من خلال أدوار جديدة للأسماء المألوفة والأدوات التنظيمية المتوافرة. ومن هنا إعادة علي لاريجاني إلى موقع الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي ولكن مع إضافة جديدة وهي كممثل للمرشد الأعلى. وليس تفصيلاً ما صرّح به وزير الدفاع الإيراني من أنّ بلاده بالغت أحياناً قبل اندلاع الحرب في تقاريرها وعروضها الإعلامية حول قدراتها العسكرية، وذلك خلال مقابلة له مع التلفزيون الإيراني. وفي ورشتها الداخلية القائمة نفّذت طهران تغييرات عسكرية وأمنية جذرية كمثل إحداث مجلس دفاع جديد وإعادة تدوير وجوه سياسية قديمة في إطار خلط أوراقها الأمنية مجدداً. وهي عملت على استحضار دروس وإجراءات مرحلة ما بعد الحرب مع العراق عام 1988، حين لجأت إلى تفعيل هياكل مصغّرة ولكن عالية التركيز، لتجاوز بطء البيروقراطية وضمان سرعة اتخاذ القرارات. لكن طبيعة التحدّيات تختلف عن الحرب التي جرت مع العراق. فهنالك الحرب الإستخباراتية الهجينة، والهجمات السيبرانية، والإستهداف الدقيق لقيادات الصف الأول، إضافة إلى تحريض داخلي متنامٍ يرتكز على احتجاجات شبابية وسط «ضجر» من الطبقة الحالية. وفي استطلاع أجراه معهد GAMAAN لاستطلاعات الرأي ومقره هولندا، والذي شمل نحو 20 ألف إيراني، أبدى 70% منهم معارضتهم للسلطة القائمة، والأخطر أنّ 40% إعتبروا أنّ سقوط النظام القائم سيكون شرطاً أساسياً للتغيير، وأنّ 89% يؤيّدون النظام الديموقراطي كبديل للنظام الديني. وتسجل الأرقام المعارضة، النسبة الأعلى لدى شريحة الشباب وسكان المدن، والذين يتمتعون بمستوى تعليمي عالٍ نسبياً. وهذه الشرائح تُعتبر الأكثر ديناميكية، وهنا مكمن الخطورة. وهذا يعني أنّ النظام القائم في طهران في حاجة ماسّة لفترة طويلة من الهدوء والإنكفاء لإعادة بناء دينامية جديدة وثوب سياسي حديث يسمح له بتثبيت أقدامه للعقود المقبلة. ولا شك في أنّ واشنطن التي تدرك ذلك وتفضّل عدم استهداف النظام الديني القائم، تدرك ايضاً أنّ الهوامش التي كانت قائمة في الشرق الأوسط ضاقت كثيراً، وهو ما يسمح بتركيز معادلات جديدة متجانسة مع خريطة النفوذ السياسي الجديد.

وفي موازاة ذلك، باشرت قيادة المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي «سنتكوم» في تطبيق استراتيجية انتشار عسكري جديدة، ترتكز على التعاون ورفع مستوى التنسيق مع جيوش وقوى المنطقة، وفي المقابل تخفيف الإعتماد على الأعداد الكبيرة للجيش الأميركي، وعبر اعتماد سياسة الحشد السريع التي تقوم على نقل القوات إلى مناطق النزاع عند الضرورة وبالسرعة المطلوبة، عن طريق الجو وعبر الأساطيل المنتشرة حول العالم. ومن هنا فإنّ تقديرات البعض حول تخفيف عديد القوات الأميركية في المنطقة ووضعه في خانة تراجع اهتمام واشنطن بشؤون الشرق الأوسط، إنما هو اعتقاد خاطئ كلياً.

وانطلاقاً من هذه الإستراتيجية العسكرية الجديدة، حاولت تركيا نيل تفويض لتسليح وتدريب الجيش السوري وفق العقيدة الغربية، ما يؤمّن التوازن مع روسيا ويمنعها من السيطرة على الجيش، وهي التي تملك رصيداً تاريخياً تسليحاً وتدريباً. وكذلك للوقوف في وجه محاولات إيران للنفاذ الى الساحة السورية. وبالفعل باشرت دمشق حملة تطويع لمصلحة الجيش السوري بعد توقيع اتفاقية تعاون عسكري مع تركيا. لكن إسرائيل أبدت معارضتها لنفوذ تركي قوي داخل التركيبة العسكرية السورية، ووجّهت رسائل بهذا الصدد، بعضها من خلال قصف جوي لبعض المواقع العسكرية السورية. لكن دمشق قلقة أيضاً من التشجيع الإسرائيلي لانفصال الدروز والأكراد عن سلطة دمشق. وهو ما جعل واشنطن تقترح توقيع معاهدة دفاعية مع دمشق ترتكز على تعاون عسكري وثيق مع الجيش السوري. ولكن الأهم اعتراف الشرع بوجود مفاوضات بين سوريا وإسرائيل، وأنّها قطعت شوطاً متقدّماً في شأن اتفاق أمني بينهما، وفق خط الهدنة عام 1974.

وإذا افترضنا تشابه المطالب الإسرائيلية ما بين سوريا ولبنان، فأنّه من البديهي الإستنتاج بأنّ إسرائيل قد تقبل باستعادة اتفاقية الهدنة معدلة، ولكن بعد مفاوضات مباشرة، وليس الذهاب إلى التطبيع كما يُشاع على نطاق واسع في الإعلام. لكن اللافت ما قاله وزير الأمن الإسرائيلي من أنّ إسرائيل ستبقى في الجزء المحتل حديثاً من جبل الشيخ، إضافة الى المنطقة الأمنية، بهدف حماية الجولان والجليل حسب إدعائه. وهو ما يعني أنّ إسرائيل لن تنسحب من النقاط الخمس في جنوب لبنان للأسباب عينها. لا بل إنّها لن تقبل أبداً بإعادة إعمار ما صنّفته شريطاً أمنياً لها.

ووفق ما تقدّم، فإنّ وقوف واشنطن عبر وفدها إلى بيروت إلى جانب وجهة النظر الإسرائيلية، له أسباب أبعد مما يجري تبريره إعلامياً. هو واقع جديد يجري العمل على ترسيخه أسوة بما هو حاصل مع الجنوب السوري. ولكن، هل من الممكن إجهاض هذا الواقع، خصوصاً أنّ إسرائيل بدأت تطبّق نظرية «مرحلة مقابل مرحلة» بدل نظرية «الخطوة مقابل الخطوة»؟.

يقولون إنّ السياسة تأتي انعكاساً للتوازنات الميدانية. فوفق هذه النظرية كانت الكلمة الأقوى طوال العقدين الماضيين في المنطقة لإيران. أما اليوم فالتوازنات اختلفت. فمثلاً لم تتمكن إيران من تمرير مشروع القانون الجديد لـ«الحشد الشعبي» في العراق، والذي يشكّل أهمية فائقة لها. فلقد تمّ شطب هذا البند من جدول أعمال جلسات مجلس النواب العراقي، مع العلم أنّه كان يمكن إقراره بغالبية مريحة تملكها إيران. لكن تبعات الرفض الأميركي له جعلت القوى المتحالفة مع إيران تعمل على سحبه. وبالتالي يمكن الإستنتاج أنّ «حرية» حركة «حزب الله» في لبنان لا تبدو متوافرة في ظل الظروف الصعبة لإيران. وهو ما جعل الوفد الأميركي يشعر بحرّية الحركة التي افتقدتها واشنطن دائماً في السابق، وهو الذي يؤدي إلى إدراج المواقف العالية السقف في إطار تسجيل نقاط إعلامية، وليس كتحضير لترجمة فعلية على أرض الواقع، في وقت تستعد واشنطن لفتح أبواب الدعم لمصلحة الجيش اللبناني، وتزويده أسلحة جديدة نوعية، كمثل مروحيات قتالية هجومية.