
“الحزب” والدولة وجهاً لوجه… في داخل النفق
الرد الإسرائيلي قطع تماماً على الدولة هامش المناورة، فبات عليها أن تقول وتفعل. فإما أن ترفض الرد وتفتح باب المواجهة الخطرة، مع الولايات المتحدة ديبلوماسياً واقتصادياً، ومع إسرائيل عسكرياً، وإما أن توافق وتغامر بمواجهة مع “الحزب”.. وعندما يغادر الأميركيون، سيكون اللبنانيون وحدهم- الدولة و”الحزب” والطوائف الأخرى- أمام الاستحقاق: أي مواجهة قرروا الاستسلام لها، مواجهة الداخل أم مواجهة الخارج؟
المشهد سوريالي فعلاً: المفترض أن يكون “حزب الله” مرتاحاً- لا غاضباً- من موافقة إسرائيل على ورقة “الخطوة مقابل خطوة”، لأن تنفيذها يلبي العنوان الذي يرفعه “الحزب”، للتمسك بالسلاح، أي تحرير الأرض اللبنانية بالكامل.
المثير أنّ “الحزب” استبق محادثات توم باراك في إسرائيل بحملة نفذها كوادره، تعلن رفضه تسليم السلاح إلى الجيش اللبناني، أياً كانت الظروف والمبررات. ففي رأيه أن لا ثقة في قدرات هذا الجيش عسكرياً، ولا ثقة في السلطة التي تدير الدولة والجيش سياسياً. وترجمة هذا الكلام واضحة: “الحزب” يسلم الجيش سلاحه عندما يصبح سلاحه هو الجيش، وهو يسلم الدولة قراره عندما يصبح قراره هو الدولة. أي، عندما يصبح هو الدولة، يسلمها نفسه. بمعنى آخر، يسلم نفسَه لنفسِه بنفسِه، وإلا، “لا تعذبوا قلبكم”!
لم يكن صعباً على أي محلل أن يدرك الجواب الذي سيحمله باراك من إسرائيل، حتى قبل أن يزورها: أنتم حتى الآن وعدتمونا بخطة تنفيذية يقوم الجيش بإعدادها وستعرض على مجلس الوزراء، وهي تقضي بنزع سلاح “الحزب” تدريجياً حتى نهاية العام الجاري. جيد. وفقاً لمبدأ الخطوة مقابل خطوة، نحن سنطلق في المقابل خطة تقضي بالانسحاب التام من لبنان، ووقف كل العمليات العسكرية وإطلاق الأسرى، تبلغ خواتيمها في نهاية هذا العام أيضاً. وتعالوا نبدأ التنفيذ في آن معاً. أبلِغونا عن تنفيذ أول خطوة لنلاقيكم بتنفيذ أول خطوة من جانبنا. ولأن الأميركي هو الحَكَم والوسيط الذي تثقون فيه، فهو سيفصل بيننا. وإذا تلكأنا عن مقابلة الخطوة بخطوة، حينذاك لكم الحق في الاعتراض والشكوى إليه.
بالتحليل البسيط، ومن دون الحاجة إلى معلومات، كان ممكناً تصوّر هذا الرد الإسرائيلي الذي تبلغته الحكومة اللبنانية من باراك، معتبراً إياه إيجابياً. وطبعاً، كان الرئيس جوزاف عون والرئيس نواف سلام يتوقعان هذا الرد. وفي العمق، هما مقتنعان به، لكنهما خائفان. لماذا؟
لأنّ هذا الرد قطع تماماً على الدولة هامش المناورة، فبات عليها أن تقول وتفعل. فإما أن ترفض الرد وتفتح باب المواجهة الخطرة، مع الولايات المتحدة ديبلوماسياً واقتصادياً، ومع إسرائيل عسكرياً، وإما أن توافق وتغامر بمواجهة مع “حزب الله”. وهذا الاستحقاق لا يتحمل التأجيل سوى ساعات قليلة، أي ريثما يكون باراك وأورتاغوس ووفد الكونغرس المرافق قد وضبوا أمتعتهم وغادروا بيروت.
لا تجرؤ الدولة على قول “لا” لواشنطن. هذا يعني الانتحار. وبالتأكيد، يحاول أركانها تشغيل خدمة الذكاء الاصطناعي لعله يساعدهم على إيجاد الصيغة التي لا تُغضب الأميركي والإسرائيلي ولا “تزعّل” “الحزب”. ولكن، على هؤلاء أن يتذكروا أنّ “الذكاء” هذا اخترعه الأميركيون وهو يحمل جنسيتهم. وهذا أمر يعرفه “الحزب” أيضاً، ولذلك هبَّط الحيطان بالحراك الشعبي، لكنه تراجع تاركاً الحيطان مهدمة في وجه دولة الطوائف الأخرى. وعندما يغادر الأميركيون، سيكون اللبنانيون وحدهم- الدولة و”الحزب” والطوائف الأخرى- أمام الاستحقاق: أي مواجهة قرروا الاستسلام لها، مواجهة الداخل أم مواجهة الخارج؟
يقول “الحزب”: “فلتنسحب إسرائيل بالكامل، وتوقف عملياتها، وليعُد الأسرى، وتعمَّر القرى الحدودية ويرجع السكان، حينذاك قد نفكر في مناقشة مستقبل سلاحنا”. ولكن، في الواقع، قبل 8 تشرين الأول 2023، لم يكن هناك احتلال إسرائيلي للأرض (مزارع شبعا لم يعترف نظام الأسد حليف “الحزب”، وليس إسرائيل، بأنها لبنانية!)، ولا عمليات حربية، ولا قرى مهدمة ولا مهجرون. ومع ذلك، كان “الحزب” يرفض مجرد التلميح إلى البحث في مستقبل سلاحه. بل إنه خاض وحده (مباشرة وعبر حكوماته) مفاوضات ترسيم بحري اتخذ فيها القرار بمفرده، فأجرى المقايضات وتخلى عن حقوق لبنان في أراضٍ شاسعة وأسكت انتقادات المعارضة لهذا التخلي. وكان على وشك الانطلاق في مفاوضات للترسيم براً، برعاية أميركية أيضاً، لولا اندلاع الحرب. وفي تلك الفترة، لم تكن لا إسرائيل ولا الولايات المتحدة تحملان هَمَّ السلاح أو تطالبان بنزعه، ولا كانتا تتذكران القرارين 1559 و1701.
ما يريده “الحزب” اليوم هو أن تعود عقارب الساعة إلى الوراء، إلى تلك الفترة، وأن ينسى الأميركيون والإسرائيليون سلاحه مرة أخرى، ويحاوروه هو، لا الدولة، على التسويات والمكاسب. لكن الحرب التي “دَنْدَل” “الحزب” نفسه فيها، ومعه لبنان، غيّرت كل شيء. وعلى الأرجح، لو كان أمينه العام السابق، السيد حسن نصر الله، يدرك أنّ لحظة اندلاع تلك الحرب كانت منطلقاً تاريخياً لتغيير الشرق الأوسط لما دخل فيها. ولقال مرة أخرى: “لو كنت أعلم”.
الآن، الدولة و”الحزب” محتجزان معاً، وحيدين، داخل النفق العميق. وكل منهما ينظر إلى الآخر ويفكر: هل يباشر العراك المجنون مع الآخر حول السلاح؟ وفي الانتظار، يقف الأميركيون والإسرائيليون فوق، يترصدون ما سيجري. ففي الأساس، هذا السلاح الذي يصرخون مطالبين بنزعه يعرفون جيداً أنه لم يعد ذا وزن فاعل في توازنات القوة العسكرية في الشرق الأوسط. وعلى الأرجح، هم يستخدمونه اليوم كعنوان للضغط السياسي على لبنان. فما من قوة عربية مجاورة لإسرائيل بقيت لها القدرة على تهديدها فعلاً، من الفلسطينيين إلى لبنان وسوريا والأردن. وفي أي لحظة، يمكن أن يتخذ الأميركيون والإسرائيليون، الواقفون فوق النفق اللبناني، أي قرار يريدون، ما دامت كفة ميزان القوى راجحة بقوة إلى جانبهم، وهي باقية كذلك طويلاً جداً. فكيف سيتدبر اللبنانيون أمر السلاح في هذه العجالة، وتحت الضغط؟