
لمصلحة من ألغى برّاك زيارته للخيام وصور؟!
خطفت الوفود الأميركية التي “غزت” بيروت منذ عطلة نهاية الأسبوع الماضي الأضواء. فرافق اللبنانيون عبر وسائل التواصل الاجتماعي تحركاتها، وانشغلوا بمورغان اورتاغوس وهي تصفف شعرها واطلاعها على آخر “صيحات الموضة”، وراقبوا “صراحة” ليندسي غراهام وفظاظة توم برّاك “الاستثنائية” تجاه الصحافيين التي لم يتوقعها أحد، قبل إلغاء زيارته الميدانية لمدينتي الخيام وصور. وعليه، طُرح السؤال: هل هي النعمة أم النقمة؟ ومن هو المستفيد مما حصل؟
ليست المرّة الأولى التي ينشغل فيها اللبنانيون في رصد حركة الموفدين الأجانب والغربيين خصوصاً، بعدما تقلّصت حركة الموفدين العرب والخليجيين حتى انتفاء وجودهم، ما خلا أولئك الذين اتقنوا الجولات والمهمّات السرّية، ولم تُرصد لهم صورة لا على البحر ولا في المطاعم ولا في المآدب واللقاءات الموسّعة. فاللبنانيون يعشقون المبادرات الأجنبية وينتظرون منها الحلول والمخارج حتى السحرية منها. ذلك أنّ التجارب السابقة خير دليل، وقد حفل بها التاريخ المعاصر، فلم يتمّ التوصل إلى تفاهم كبير او اتفاق أرسى فترة من الهدوء بين جولة أمنية وأخرى، بلا هذه المؤتمرات التي شهدتها العواصم العربية والخليجية من القاهرة إلى الرياض والطائف والدوحة، بعد لقاءات جنيف ولوزان والطاولات الحوارية التي عُقدت في باريس وروما.
على هذه الخلفيات، لم ير اللبنانيون مخرجاً لمسلسل الحروب الأخيرة التي تلت “طوفان الأقصى” و”حرب الإسناد” في نهاية الاسبوع الاول من تشرين الأول 2023، وما تلاها من إعادة احتلال لإراضٍ لبنانية كانت محرّرة قبل 24 عاماً، وما رافقها من جولات، من دون الوساطة الأميركية التي بُنيت عليها الآمال والمشاريع الهادفة إلى إعادة الإعمار والإنعاش الإقتصادي والإجتماعي، بعد مرحلة افتقدت فيها الدولة بمختلف مؤسساتها، وغاب التيار الكهربائي وانقطعت الأدوية والمحروقات وتعطّلت المدارس والجامعات. فكانت المبادرة الخليجية ـ الأميركية التي ترجمتها اللجنة الديبلوماسية الخماسية التي نمت على فتات المساعدات للمؤسسات الرسمية والجيش، خصوصاً بعد “تفجير المرفأ” وجائحة “كورونا”، وما تسببت به من إغلاق عالمي لم تعرفه الكرة الأرضية من قبل.
كان ذلك مجرد تقديم مسلسل للعروض الذي استدرج حركة الموفدين الأميركيين التي حُجبت عنها الأضواء، وتراجعت حظوظ المشاريع الفرنسية خصوصاً والاوروبية عموماً ومعها الخليجية ايضاً، وتحول الموفدون الرئاسيون والحكوميون والأمميون مجرد زوار، لم تبنَ على مشاريعهم وخططهم أي اقتراحات عملية، لأنّها لم تصل إلى درجة الحسم. فخلت الساحة من الشخصيات والوفود، إلى ما انتهت اليه المبادرات الأميركية حتى تمّ التوصل الى ما سُمّي “تفاهم 27 تشرين الثاني 2024”. وهو اتفاق تحول وثيقة تشكّل مرجعاً لأي اقتراح يمكن أن يشكّل خطوة في الطريق إلى بعض المخارج والحلول التي ما زالت مطروحة. وكل ذلك من أجل إعادة بناء ما دُمّر، ووضع حدّ للتجارب اللبنانية القاسية منذ أن أنهت الفراغ الرئاسي الذي امتد من اول تشرين الثاني 2022 إلى 10 كانون الثاني الماضي، والتخلص من حكومة تصريف أعمال عاشت أطول عمر حكومي في التاريخ المعاصر على مستوى حكومات لبنان منذ 10 ايلول 2021 حتى الثامن من شباط 2025.
لم يكن هذا العرض التفصيلي لتاريخ المحطات السياسية والأمنية في السنوات الاخيرة التي تعدّدت، ولكن من أجل الغوص في الظروف التي اوصلت إلى إطلاق المبادرة الأميركية التي رعت التفاهم الأخير بمشاركة فرنسية تكاد تكون رمزية، لأسباب ديبلوماسية دقيقة جداً. وبدل التوصل إلى ترجمة وتفسير واضحين لمضمونها وما قالت به، يحاول البعض التملّص مما انتهت اليه، من خطوات فُرضت على اللبنانيين بطريقة قاسية وربما “مذلّة” بالنسبة إلى اكثريتهم، على رغم من عدم علاقتهم بمن قادهم إلى الحرب. ولما تمّ تكريسها في بنود مفصّلة لا تخضع لأي تفسير غير منطقي، أعطت التفوق الإسرائيلي دفعاً غير مسبوق في لبنان والمنطقة. وهو مسار عززته “الطحشة” الإسرائيلية في اتجاه سوريا واليمن والعراق وصولاً إلى ضرب إيران مباشرة، ليس بسبب ما انتهت اليه من تقدّم في منشآتها النووية، بل بمقدار ما هدّدت كيانات نتيجة أذرعها في المنطقة. فاهتزت زوايا دول الخليج وأمنها الإقليمي من باب المندب إلى مضيق هرمز وفي اليمن والبحرين ودول اخرى، حيث انتشرت القلاقل بطريقة غير مسبوقة.
عند هذه التطورات، كبر الدور الأميركي، وتحول حاجة ماسّة بعدما سقطت المبادرات الاخرى. فتربّع عاموس هوكشتين على عرش الموفدين، بعد نجاحه في إبرام التفاهم على الترسيم البحري مع اسرائيل، وسلّم التفاهم الذي أنجزه في تشرين الماضي إلى مورغان اورتاغوس وتوم برّاك. فأمسك الأميركيون بناصية الحلول بلا أي شريك، وراحوا يوزعون الادوار والأذونات الخاصة لتل ابيب التي تواصل عدوانها في لبنان والمنطقة بلا رقيب ولا حسيب.
وعليه، لم تقم تل ابيب بأي عملية اغتيال او إغارة قبل ان تتوّجها بالتفاهم مع واشنطن، متجاهلة الخماسية العسكرية والآلية التي وضعت للتثبت من جمع سلاح “حزب الله” وتفكيكه، ليس في الجنوب فحسب إنما في كل لبنان. ولما لم يعترف الحزب وحلفاؤه، بأنّ التفاهم لم يتناول أي شبر خارج جنوب الليطاني، قبلوا بأن تكون أحياء الضاحية الجنوبية ومناطق بقاعية مسرحاً لعملياتها، فتلاحقت الإنذارات بوجود مخزن ذخيرة هنا أو هنالك، ولم يحل تدخّل الجيش لإثبات العكس دون بعض الغارات الجوية منذ ذلك التفاهم، والتي ادّت إلى اكثر من 257 شهيداً في المناطق كافة.
عند هذه المؤشرات يتوقف مرجع ديبلوماسي عتيق ليشير إلى أنّ ما جرى أمس من تعطيل لزيارة برّاك لمدينتي صور والخيام، لم يكن لمصلحة الجنوبيين خصوصاً واللبنانيين عموماً. وإن وصفه البعض بأنّه تهديد “صبياني” و”دعائي محلي”، فقد انعكس على مجريات الأمور على عكس ما يشتهيه البعض، فقد كان الموقف الأميركي صلباً ومتشدداً، وما على اللبنانيين سوى الإلتزام بما تقرّر، وفي حال العكس فإنّ الأمور تزداد سوءاً وتعقيداً.
وجاء اعتراف رئيس مجلس النواب نبيه بري أمس بحجم التعقيدات ليزيد الأفق سواداً. والأخطر من كل ذلك إن تحقق ما يقترحه البعض، بإسقاط التفاهمات الأخيرة كافة وطرد الموفدين الأميركيين، والعودة إلى نقطة الصفر قبل 27 تشرين الثاني الماضي. وإن ردّها أهل الحكم إلى “الأخ الأكبر” ومن خلفه إلى “الثنائي الشيعي”، ماذا ستكون عليه النتيجة الحتمية. ومَن يملك تفسيراً آخر يمكن أن يحمل إي إشارة إيجابية تغيّر مجرى ما يطرحه الأميركيون، فليتفضّل به.