
لبنان وأسر الشر المتكرّر
منذ تأسيس الكيان اللبناني، والمكوّنات الطائفية والسياسية تتناوب على ارتكاب الأخطاء الكبرى التي طبعت مسار الدولة وأدخلتها في أزمات متتالية، لكن الأخطر من تلك الأخطاء هو الإصرار على عدم الاعتراف بها، وكأنّ الاعتراف يشكّل تهديدًا وجوديًا أو خسارة لامتيازات طائفية وسياسية. هذه القاعدة غير المعلنة تحوّلت إلى عرف لبناني جامع: الجميع أخطأ، والجميع يرفض الاعتراف. وبذلك تراكمت طبقات من “الشر” السياسي والاجتماعي، بحيث صارت الذاكرة الوطنية مثقلة بالتجاوزات من دون أن تتحوّل يومًا إلى دروس أو عبر، بل إلى بؤر جديدة للتكرار.
لقد عرف لبنان نماذج متعدّدة من هذا الشرّ. فالتجربة الفلسطينية على أرضه انتهت عام 1982 بخروج منظمة التحرير إلى تونس، بعدما تحوّلت القضية الفلسطينية إلى احتلال مقنّع للسيادة اللبنانية وأداة صراع دمويّ داخليّ. ومع ذلك، لم يصدر اعتراف صريح من الفصائل الفلسطينية بمسؤولية ما جرى ،ولا من القوى اللبنانية التي استقوت بهذا الوجود لتصفية حساباتها. وفي المقابل، جرى طيّ الصفحة بلا مساءلة، وكأنّ لبنان مجرّد ساحة مفتوحة للتجارب.
ثمّ جاء الطور السوري، حيث تحوّلت الوصاية التي أُقرّت ضمنيًا في الطائف إلى احتلال مباشر قمعي استمرّ حتى عام 2005. مرة أخرى، انتهى الاحتلال بفعل توازنات دولية وإرادة شعبية لبنانية عارمة، لكن لم يحدث أن اعترفت دمشق بأخطائها أو بجرائمها في لبنان، ولم تتجرّأ المكوّنات اللبنانية التي سايرت هذا الوجود على مراجعة خياراتها، بل أعادت التموضع ببساطة وكأنّ شيئًا لم يكن.
والحال نفسه انسحب على تجربة تقسيم لبنان خلال الحرب اللبنانية، حيث رسمت القوى الميليشياوية خطوط تماس وكيانات مصطنعة لم تعمّر طويلًا. الأميركيون فرضوا في الطائف معادلة جديدة أنهت التقسيم، لكنّ أحدًا لم يقل نعم أخطأنا، نعم ساهمنا في تمزيق وحدة البلد. بل بقيت الذاكرة مثقوبة باعترافات ناقصة وانتقائية.
اليوم، يعيش لبنان مرحلة الشرّ الإيراني عبر امتداد “حزب اللّه” ونفوذه. هذا الشرّ اتخذ طابعًا مركّبًا يقوم على إنكار مزدوج: أولًا، تغطيته بدعوى أنّ ولاية الفقيه تحكم بأمر إلهي مرتبط بالمهدي المنتظر، ما يجعل أيّ مساءلة سياسية أو وطنية في حكم الاعتراض على “الحق الإلهي”. وثانيًا، الادّعاء أنّ الشيعة في لبنان سيخسرون حقوق المواطنة إذا انتهى التسلّط العسكري والسياسي الذي يمارسه “الحزب”. بهذه الثنائية، يُقفل الباب أمام أي اعتراف بالخطأ أو مراجعة للتجربة، ويستمرّ الشرّ لأنّ الاعتراف بالهزيمة لم يحصل بعد، وما دام التمويل المرتبط بالمشروع الإيراني قائمًا، فإنّ الإنكار سيبقى سيّد الموقف.
إنّ لبنان لا يحتاج إلى وصفات خارجية بقدر ما يحتاج إلى جرأة داخلية تواجه الحقيقة كما هي، كلّ مكوّن أخطأ، وكلّ مكوّن يرفض الاعتراف بخطئه. من دون هذه الخطوة، ستبقى الدائرة جهنمية يعاد فيها إنتاج الأزمات بالوجوه ذاتها والشعارات ذاتها. الاعتراف ليس إضعافًا لأحد بل تأسيسًا لشراكة حقيقية تحمي الكيان من إعادة الانزلاق إلى مشاريع احتلال وتقسيم وهيمنة. فالتاريخ في لبنان لم يتوقف، بل يعيد نفسه لأنّ أحدًا لم يملك شجاعة القول: نعم، أخطأنا.