
100 عام من التخبط… لبنان وسوريا أمام مفترق جديد
لا يزال بلد الأرز عالقاً بين إرث الماضي وضغط الداخل من جهة والتطلع نحو دولة سيدة ومستقلة من جهة أخرى
يعيش لبنان منعطفاً مفصلياً منذ انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية في يناير (كانون الثاني) الماضي وقرارات تاريخية تقضي بحصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية للمرة الأولى منذ اتفاق القاهرة عام 1969. إنها لحظة نادرة لطي صفحة الماضي وفتح صفحة دولة سيدة على حدود واضحة ومعالم ثابتة.
منذ إعلان دولة لبنان الكبير عام 1920، والعلاقات اللبنانية – السورية محكومة بإرث ثقيل من الوصاية والإنكار. دمشق رفضت لعقود الاعتراف بلبنان كدولة مستقلة مكتملة السيادة، واعتبرت ترسيم الحدود فعلاً بين الأعداء لا بين الأشقاء. وتكرس هذا الفهم في تدخلات مباشرة خلال الحرب الأهلية (1975)، ثم في اتفاق الطائف (1989) الذي أبقى القوات السورية داخل لبنان حتى عام 2005. وحتى بعد الانسحاب العسكري، ظل النفوذ السوري قائماً عبر أدوات محلية أبرزها “حزب الله”.
اليوم وبعد سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر (كانون الأول) عام 2024، تبدلت المعادلة جذرياً. مرحلة جديدة في دمشق أعلنت احترامها لسيادة لبنان وحلت حزب البعث وأغلقت طرق التهريب. في المقابل، يعيش لبنان منعطفاً مفصلياً منذ انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية في يناير (كانون الثاني) الماضي وقرارات تاريخية تقضي بحصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية للمرة الأولى منذ اتفاق القاهرة عام 1969. إنها لحظة نادرة لطي صفحة الماضي وفتح صفحة دولة سيدة على حدود واضحة ومعالم ثابتة.
من الوصاية إلى الدولة
رحيل النظام الأسدي بعد أكثر من نصف قرن من الهيمنة أنهى مرحلة الوصاية التي عاناها لبنان. فلم يعُد هناك من يكرر مقولة “شعب واحد في بلدين” ولا من يفرض على بيروت قراراتها الداخلية. والحكومة السورية بادرت بالتفاوض مع لبنان برعاية سعودية في جدة في مارس (آذار) الماضي، لترسيم الحدود وتعزيز التنسيق الأمني. وهذا التطور غير مسبوق، فللمرة الأولى يجلس الطرفان كدولتين مستقلتين متكافئتين برعاية عربية ودعم ودولي.
والحدود التي بقيت لعقود خطوطاً وهمية تحولت إلى أولوية، إذ باشرت لجان تقنية عملها وخرائط فرنسية قديمة أعيد تسليمها لبيروت ومعابر غير شرعية أغلقت. والأهم أن دمشق الجديدة أعلنت وقف رعاية التهريب وإغلاق مصانع المخدرات التي كثيراً ما غذت الفوضى المالية التي رعاها “حزب الله”. وهذه التحولات تفتح الباب أمام علاقة طبيعية طال انتظارها.
انتخاب قائد الجيش جوزاف عون رئيساً للجمهورية شكل نقطة تحول في الداخل اللبناني بخلاف بعض أسلافه الذين خضعوا لمحاور إقليمية، وجاء بخطاب سيادي واضح، لا سلاح خارج الجيش ولا قتال بالوكالة ولبنان دولة محايدة تسعى إلى علاقات متوازنة مع الجميع. وخلال خطاب عيد الجيش في يوليو (تموز) الماضي، وجه الرئيس نداء مباشراً إلى “حزب الله” لتسليم سلاحه، محذراً “إما الدولة وإما الانهيار”.
ولم يكتفِ بالكلام، بل ترجم مواقفه بخطوات عملية، فقرر مجلس الوزراء في الخامس من أغسطس (آب) الجاري بتكليف الجيش وضع خطة لنزع كل السلاح غير الشرعي قبل نهاية العام. إنه قرار غير مسبوق منذ “الطائف” اتخذ بالإجماع على رغم انسحاب وزراء “الثنائي الشيعي”. وإنه إعلان رسمي أن عهد ازدواجية السلاح انتهى وأن السيادة أصبحت مشروع دولة لا شعاراً انتخابياً.
نهاية اتفاق القاهرة
عام 1969، شرّع اتفاق القاهرة الوجود المسلح الفلسطيني في لبنان، فاتحاً الباب أمام عقود من عسكرة الداخل. ومنذ ذلك الحين، ظل السلاح خارج الدولة، من منظمة التحرير إلى الميليشيات اليسارية، وصولاً إلى “حزب الله”، يهيمن على المعادلة اللبنانية. واليوم، للمرة الأولى منذ نصف قرن، تقرر الدولة اللبنانية رسمياً أن السلاح حصرياً بيدها.
والجيش بدأ بتنفيذ القرار، تسلّم أسلحة المخيمات الفلسطينية بالتنسيق مع منظمة التحرير وتفكيك 85 في المئة من مواقع “حزب الله” جنوب الليطاني بدعم الـ”يونيفيل” وتعزيز القوى العسكرية عبر تجنيد آلاف العناصر وتأمين دعم مالي خارجي. إنها عودة تدريجية لاحتكار العنف الشرعي بيد الدولة، وهو جوهر مفهوم السيادة.
ولا يمكن تجاهل الدور العربي والدولي، ولا سيما السعودي، في رعاية هذا التحول، فالرياض استضافت مفاوضات ومساعي ترسيم الحدود، وأوفدت وزير الدفاع الأمير خالد بن سلمان ليؤكد التزام المملكة دعم استقرار لبنان وسوريا معاً. والسعودية تدرك أن أمن المشرق مترابط وأن ضبط الحدود اللبنانية – السورية شرط أساس لمنع التوترات وسد أي فراغ تستغله الميليشيات.
والدور السعودي لا يقتصر على الرعاية الدبلوماسية، بل يشمل دعماً مالياً واقتصادياً يعيد الثقة بالاستقرار اللبناني بعد أن ينهي لبنان مخاض استعادة سيادته ومؤسساته. ومع هذا الانفتاح، يجد لبنان نفسه محاطاً بغطاء عربي يعوض أعواماً من العزلة التي فرضها نفوذ إيران و”حزب الله”.
مع كل هذه الإيجابيات، لا تزال ملفات ثقيلة تنتظر المعالجة، فهناك نحو 1.5 مليون نازح سوري يثقلون الاقتصاد اللبناني المتداعي، وثمة حاجة إلى خطة مشتركة لإعادتهم بضمانات دولية. وملف المعتقلين والمفقودين لا يزال جرحاً مفتوحاً بين البلدين، والاقتصاد اللبناني يحتاج إلى إصلاحات عميقة وإعادة ثقة مع صندوق النقد والمجتمع الدولي. والرئيس عون وحكومته يدركون أن استعادة السيادة لا تكتمل من دون معالجة هذه القضايا، وأن شرعية الدولة تبنى بقدر ما تعالج أزمات مواطنيها اليومية.
عوائق التفاهم
وعلى رغم المؤشرات الإيجابية، يبقى سؤال أساس مطروحاً، ما الذي يمنع اليوم إتمام الاتفاق اللبناني- السوري بصورة نهائية؟
تشير المعطيات إلى عاملين رئيسين، الأول هو الواقع الداخلي اللبناني المتمثل في استمرار “حزب الله” بالضغط على الدولة ومنعها من المضي بخيارات جذرية. فالحزب يسعى إلى إبقاء العلاقة مع سوريا ورقة بيده يبرر من خلالها تمسكه بسلاحه بحجة مواجهة التهديدات الآتية من الشرق، بالتالي يعرقل أية محاولة لترسيخ التفاهمات النهائية.
أما العامل الثاني، فيرتبط بالموقف السياسي لبعض القوى اللبنانية من الحكم السوري الجديد، إذ يتعامل جزء من هذه القوى مع المرحلة الراهنة في دمشق وكأنها محطة موقتة لا تستحق البناء عليها. وبعضهم يرفض الاعتراف بأن صفحة الأسد قد طويت وأن مرحلة سياسية جديدة بدأت، ويتعامل مع التطورات السورية على أنها عابرة. وهذا التردد أو الإنكار يعوّق بلورة موقف لبناني موحد وحاسم تجاه العلاقة مع الجار الشرقي.
وهذان العاملان، قبضة “حزب الله” من جهة، وتردد بعض القوى السياسية من جهة أخرى، يشكلان معاً جداراً يمنع الطلاق النهائي، ويجعلان لبنان عالقاً بين إرث الماضي وتطلعات المستقبل.
فرصة قد لا تتكرر
لبنان وسوريا اليوم على أعتاب لحظة تاريخية، فسقوط نظام الأسد وتراجع قوة “حزب الله” أزالا العقبتين الأساسيتين أمام قيام علاقة طبيعية بين البلدين، وانتخاب جوزاف عون أعاد الاعتبار لمفهوم الدولة، وقرار مجلس الوزراء بحصر السلاح بيد الجيش فتح مساراً جديداً للسيادة، والدعم السعودي والعربي يوفر غطاء لا غنى عنه لترسيخ هذا المسار.
لكن الفرصة ليست أبدية، وإذا تراخى اللبنانيون أو عاد السوريون لنزعة الوصاية، فقد تضيع اللحظة كما ضاعت فرص كثيرة سابقاً. إنها اللحظة التي يُبنى فيها لبنان جديد على قاعدة سيادة القانون ووضوح الحدود. وبعد قرن من التخبط ربما يكون الوقت قد حان لطي صفحة الماضي وإرساء علاقة ندية بين بيروت ودمشق، تحفظ استقلال لبنان وتؤمن استقرار سوريا، وتفتح الباب أمام مستقبل مختلف لشعبين أنهكتهما الحروب.