
تبرير للقتل من خلف الشاشات: عندما يستغل المجرم منصات التواصل ووسائل الإعلام
خرج القاتل إلى العلن ليبرر للرأي العام جريمته. كشف عن وجهه وبثقة مطلقة أعلن على الملأ، عبر فيديو قصير سرى كالنار في الهشيم عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، أنه وابنه ارتكبا جريمة شرف. لم يختبئ، لم يشعر بالحرج بل أراد تبرير جريمة قتل ارتكبها تحت أعين كاميرات المراقبة. حادثة غير عادية تسلط الضوء على مفهوم خطر بات يتحكم بالمجتمع وهو “ثقافة الجريمة”. ثقافة تستند إلى عقلية إجرامية بلا شك لكنها تتنقّل على متن وسائل الإعلام والتواصل ما يطرح أكثر من علامة استفهام حول دور الإعلام في تعميم ثقافة الجريمة.
هل بتنا ضحايا لمشاهد الإجرام التي تصل إلينا من كل جهة؟ هل تكسّبنا ثقافة الإجرام وبتنا أسرى لها بفعل كل ما يحيط بنا من تطبيع للسلوكيات الإجرامية وحتى لتمجيد المجرمين؟ هل تحول الإعلام بوسائله التقليدية والحديثة وبكل وسائل التعبير إلى معمّم للجريمة ومبسّط لها بحيث أصبحت جزءًا من يومياتنا تصوغ سلوكياتنا وردود فعلنا وتعاملنا مع الآخرين ومع تفاصيل الحياة اليومية؟
وقبل أن تعلو الأصوات الإعلامية معترضة، لا بد من إعادة تعريف الإعلام بمفهومه الواسع والحديث. فهو لا يقتصر على الشاشات والصحف ولا حتى على وسائل التواصل بل إن المجتمع يتلقى الرسائل عبر وسائل تعبير مختلفة قد لا تخطر في البال وفق ما يقول السيد محمود جعفر مدير الأكاديمية الدولية للتدريب والبحوث التي أطلقت مؤخرًا دورة تدريبية حول “الإعلام والجريمة”. فالوشم وسيلة تعبير، والراية الحزبية التي تُرفع في مناسبة هي كذلك، ومثلها الأغنية أو اللوحة الجدارية أو حتى طريقة اللباس والعضلات المفتولة التي توحي بالقوة. كلها وسائل تنقل رسائل سياسية واجتماعية وثقافية قد تكون أكثر تأثيرًا من نشرة أخبار مسائية. بهذا المعنى، يتحوّل كل فعل تعبيري إلى وسيلة إعلامية تزرع خطابًا أو فكرة وتترك أثرًا في وعي الناس.
حين يصبح المجرم بطلًا
يشكّل الإعلام إذًا بمختلف وسائطه التقليدية والحديثة والتعبيرية، أداة أساسية للتواصل وصياغة الرأي العام. لكن هذه الأداة التي يُفترض أن تبني وعيًا في المجتمع، قد تتحول إلى سلاح ذي حدّين عندما تكرس ثقافة العنف وتطبع السلوك الإجرامي في المجتمع. فمشاهد الجرائم والأحداث الدموية التي تتكرّر بشكل يومي سواء عبر نشرات الأخبار أو منصات التواصل كما في الأعمال الدرامية لم تعد مجرد مادة لنقل الخبر أو الحدث، بل باتت جزءًا من يوميات الناس، تؤثر في وعيهم وقيمهم وتؤجّج فيهم ” ثقافة الإجرام” التي تتبلور بفعل التكرار. كما أن إعادة مشاهد الجرائم، لا تنتهي مع انتهاء العرض، بل تتحوّل إلى تراكمات في الذاكرة، يخرج تأثيرها لاحقًا كسلوكيات إجرامية عنيفة في الشارع أو في البيت. ويؤكد خبراء الإعلام وعلم النفس أن التعرّض المستمر لمشاهد وأخبار العنف يولّد نوعًا من تسطيح للجريمة ويخلق لامبالاة تجاه الضحية، فيما يتحوّل المجرم أحيانًا إلى رمز شعبي أو قدوة.
من هنا نفهم كيف تحوّل بعض المجرمين إلى أساطير شعبية مثل “ريا وسكينة” في مصر، “بابلو إسكوبار” في كولومبيا، نوح زعيتر في لبنان أو حتى أفيخاي أدرعي في المنطقة. التغطية المفرطة لهم لم تكتف بنقل جرائمهم بل صنعت حولهم هالة جعلتهم أبطالًا في نظر البعض.
حتى الأعمال الدرامية ساهمت في تعميم ثقافة الجريمة، ففي الدراما يتحوّل القاتل أو السارق إلى بطل تُبنى حوله القصة. فنجاح مسلسلات مثل ” لا كازا دي بابل” أظهر كيف يمكن لعملية سرقة أن تتحول إلى بطولة جماعية، وأفلام “الأكشن” جعلت من الشخص الذي يقتل أكبر عدد من الضحايا هو البطل. وقد انعكست هذه المشاهد بكل سلبياتها على الشباب بشكل خاص في لبنان كما في العالم. بات المراهق الذي يشاهد بطلًا يقتل خصومه باسم “العدالة”، مستعدًا لتبني فكرة العنف كوسيلة طبيعية للتعبير عن غضبه وكمبرّر للتمرّد على السلطة أو الأهل.
ولا يقتصر الأمر على الإعلام المرئي والمكتوب أو على الأعمال الدرامية، بل دخلت ثقافة العنف والإجرام إلى بيوت الصغار والمراهقين والشباب وعقولهم تحت ستار الألعاب الإلكترونية التي يعشقونها مثل “Call of Duty” و”PUBG” التي تحولت إلى إدمان يومي يغرقهم في أجواء العنف. هذه الألعاب لم تعد مجرد تسلية، بل استطاعت أن تخلق عقلية تنافسية قائمة على القتل والتدمير لا سيما مع الإصرار على الانتقال من مرحلة إلى مرحلة أعلى فيها وتحقيق نتائج أفضل. وقد أظهرت حوادث إطلاق النار في المدارس الأميركية أدلة واضحة على علاقة هذه الألعاب بالواقع، حيث اعترف بعض الجناة بأنهم استلهموا طرقهم من ألعاب الفيديو، وأنهم تدربوا على استخدام الأسلحة والقتل من خلالها. والمشكلة أنه في غياب برامج توعية تضع هذه الأعمال الفنية أو الترفيهية في إطارها الصحيح، غالبًا ما يتحول الخيال الدرامي إلى مرجع سلوكي عند البعض.
بين الإعلام والترويج للجريمة
بالعودة إلى الإعلام التقليدي ووفق دورة ” الإعلام والجريمة” التدريبية التي تستند إلى أبحاث ودراسات عملية، من المهم التمييز بين إعلام ينقل خبر الجريمة بحياد، وإعلام آخر يساهم، بوعي أو بغير وعي، في تمجيد المجرمين والترويج لأفعالهم. ففي كثير من التغطيات، لا يكتفي الإعلام بسرد الوقائع، بل يركّز على “ذكاء” المجرم في التخطيط والتنفيذ، وكأننا أمام إنجاز مثير للإعجاب. وفي بعض نشرات الأخبار يجرى تضخيم تفاصيل الجريمة وتنقل الكاميرات والميكروفونات أدق التفاصيل وأكثرها إثارة للمشاعر بهدف جذب الأنظار إليها وزيادة “الرايتينغ”. لكن هذا التضخيم يعزز مخاطر كثيرة ويولّد نوعًا من الذعر الأخلاقي، بحيث يشعر الناس بحالة من القلق الدائم والخوف تجاه الآخرين قد يجهلون أسبابها الحقيقية ومع تكرار المشاهد تتلبد المشاعر تجاه الضحايا فيما يتحوّل المجرم إلى “بطل” وإن بالمعنى السلبي وهو الأمر الذي نلمسه في تغطية الحروب الطويلة.
صحيح أن دور الإعلام يكمن في نقل أخبار الجرائم، لكن في الوقت نفسه قد يعمل من خلال التكرار على تطبيع الجريمة لا سيما حين تغفل التغطية الإعلامية أحيانًا عن الضحايا أو يتم استغلالهم واستضافتهم على الشاشات لإعادة سرد ما مرّوا به، لا لمساعدتهم على تجاوز المحنة، بل لإثارة المشاعر وجذب المشاهدين. وتكون نتيجة ذلك مضاعفة الألم النفسي للضحايا وتعريضهم لمشاكل إضافية.
هذا النوع من التغطية، بحسب خبراء الإعلام، ليس نقلًا للخبر بل جريمة جديدة ترتكب بحق الضحية والمجتمع. فالتركيز على الجريمة وسرد تفاصيلها يخلق قدوة سلبية، خصوصًا لدى المراهقين والشباب الذين يرون في “التمرّد” و”الدهاء الإجرامي” و”الجريمة لسبب اجتماعي أو طائفي أو حزبي” قيمًا بديلة عن القانون والأخلاق. فعلى وسائل التواصل مثلًا دائمًا ما يتم إيجاد مبررات للمجرم، فهو قام بالسرقة لأن الدولة غائبة أو لأن الفقر دفعه إليها أو لأنه استفز من قبل طرف آخر أو هي وسيلة للتحرر والخروج من الظلم أو الفقر، وكأن الظروف القاسية تشرّع الجريمة فيما الحقيقة أن السلوك الإجرامي سلوك خارج عن القانون والأخلاق ولا يمكن الدفاع عنه تحت أي مبرر، وأسوأ مثال على ذلك ما تم تداوله إثر جريمة الدامور حيث بدأ البعض إيجاد مبررات للقاتل ولـ “جريمة الشرف” التي ارتكبها بدل تقديم إدانة واضحة وصريحة لجريمته.
هذه التبريرات، وإن بدت إنسانية، تفتح الباب أمام خطورة أكبر: التساهل مع القانون وتكريس ثقافة الإفلات من العقاب. فثقافة الإجرام حين تنتشر، لا تبقى حكرًا على الأفراد بل تزرع في المجتمع قابلية لتبرير العنف أو التعايش معه، ويغدو المجتمع بأكمله بيئة حاضنة للجريمة بدل أن يكون رافضًا لها رفضًا قاطعًا. وقد يتفجر هذا العنف أو ” ثقافة الجريمة” بأساليب مختلفة: في التعاطي العنيف مع الآخر، في خطاب الرفض والكراهية، في التصرفات العنيفة على الطرقات وبين أفراد الأسرة، في التنمر والحقد… وعلى صعيد المجتمع يتجلى بفوضى وفساد واضطرابات وتظاهرات واحتجاجات عنيفة وتخبط وجمود وعدم تطور. فالثقافة الإجرامية لا تنعكس فقط على الفرد بل على المجموعات والمجتمعات و الوطن ككل. فيصبح التوتر هو القاعدة، ويتراجع الحوار ويغرق المجتمع في فوضى.
لبنان: مجتمع على تماس دائم مع العنف
في لبنان انعكست الحروب الطويلة والانقسامات السياسية العمودية واللغة الطائفية المتشنجة على كل تفاصيل الحياة اليومية، وصارت ردود الفعل العنيفة جزءًا من المشهد العام: من نزاعات الطرقات، إلى الشجارات الطلابية، وصولًا إلى السجالات السياسية. وجاء الإعلام بوسائله التقليدية كما عبر وسائل التواصل ليعزز هذه السلوكيات ويرسخها من خلال نشر خطاب الكراهية وتعميم الحملات التحريضية والاتهامية والتخوينية ونقل ما يحدث في الشارع من مواجهات كلامية أو تصادمية إلى كل بيت. وجاء الخطاب الحزبي على الشاشات ووسائل التواصل ليغذّي هذه الحالة. ولم تعد عبارات التخوين والتحريض والتهديد مرتبطة بإطارها السياسي، بل تسربت إلى اللاوعي الجماعي كما يؤكد مدير الأكاديمية الدولية للتدريب والبحوث وبدأت تظهر في سلوكيات الأفراد. بات المواطن اللبناني أسير ما يسمعه وما يشاهده يوميًا، حتى لو لم يكن منتميًا إلى أي حزب. ولم يعد يرى غيره مثالًا أو أداة للتعبير وبدأت قيمه تتحوّل تدريجيًا ليصبح سجين دائرة من الحقد والغضب نتيجة ما اختزنه من خطابات إعلامية سامة.
في الختام وفي لبنان، حيث العنف جزء من الذاكرة الجماعية، تقع المسؤولية اليوم مضاعفة على “الإعلام”، إما أن يظل شريكًا في تكريس ثقافة الإجرام من خلال ما يقدمه وإن كان نقلًا للواقع الذي نعيشه، أو أن يتحوّل إلى مساحة أمل تزرع ثقافة الحوار والسلام.