“سايكس – بيكو” على محكّ “الشّرق الأوسط الجديد”

“سايكس – بيكو” على محكّ “الشّرق الأوسط الجديد”

الكاتب: خطار ابو دياب | المصدر: اساس ميديا
3 أيلول 2025

تستمرّ لعبة الأمم القاتلة في المشرق العربي حيث لا تقتصر لعبة الشطرنج على العوامل الجيوسياسية وموارد الطاقة فحسب، بل تتعدّاها إلى العوامل القوميّة والدينيّة والمذهبيّة وصراعات النفوذ. في عباب “البحر الهائج” في الشرق الأوسط تبقى الحالة السوريّة دراماتيكيّة وحذرة في ظلّ انقسام داخليّ حادّ وتفاقم التدخّل الخارجيّ.  

 

في لبنان والعراق يعود الجدل في سلاح القوى الموالية لإيران إلى الواجهة، في لحظة تتقاطع فيها الضغوط الإقليمية مع استحقاقات داخلية حاسمة. ومع اقتراب مواعيد تنفيذ خطط حصر السلاح يتشابك المحلّي بالإقليميّ في مشهد ينذر بمواجهة سياسيّة وربّما أمنيّة أوسع، أو بعودة الاشتباك الإقليميّ. وفي الأردن، يبقى الحذر سيّد الموقف إزاء إمكان انعكاس تبنّي بنيامين نتنياهو رؤية “إسرائيل الكبرى” على كيانات منظومة سايكس – بيكو ومصيرها.

في هذه الأثناء، يستمرّ مخاض “اللعبة الكبرى” الجديدة في القرن الحادي والعشرين التي ابتدأت انطلاقاً من بغداد في 2003، ووصلت إلى سوريا في آذار 2011 بموازاة حركات الاحتجاج العربية، ثمّ كان إعلان نشأة “داعش” في منتصف 2014، وصولاً إلى تطوّرات ما بعد السابع من أكتوبر التي لا تزال تتفاعل ولا تزال نتائجها تأتي تباعاً.

“حصريّة السّلاح” عنوان استعادة الدّولة

أسفرت المواجهات والحروب بعد السابع من أكتوبر 2023 عن إضعاف المحور الإيراني وبشكل خاصّ امتداده المشرقيّ مع سقوط منظومة الأسد في سوريا وإضعاف “الحزب” في لبنان والإقليم وتراجع موقع “الحشد الشعبي” في العراق، فعاد البحث بمصير “الدولة الوطنية” المفقود ومآلاته.

يمكن القول إنّ حصرية السلاح هو عنوان ملائم لاستعادة الدولة في لبنان والعراق لكي تحلّ مكان “اللادولة” و”الهياكل الموازية” و”الميليشيات” التي سادت في الزمن الإيراني.

يتمثّل ألف باء تكوين وسيادة الدولة في سيطرتها على قرار الحرب والسلم، وهذا ما تمّ حرمان لبنان منه منذ تحوّله إلى ساحة “حروب الآخرين” (كما الحرب الأهليّة) منذ نهاية ستّينيّات القرن الماضي. أمّا العراق حيث التعاون ثمّ التجاذب الأميركي- الإيراني منذ 2003، فلم يتمكّن من إعادة بناء دولته بالشكل الصحيح.

تعاقب على لبنان العديد من الاحتلالات والتدخّلات بدءاً من السلاح الفلسطيني (الذي انتهى نفوذه منذ الاجتياح الإسرائيلي في 1982) وصولاً إلى السلاح الإسرائيلي الذي انتهى مع الانسحاب في عام 2000، وبعده السلاح السوري الذي انسحب في 2005. وفي كلّ هذه الحالات كان الطابع الإقليمي هو الطاغي على هذه الأسلحة. وهكذا بقي في الساحة “سلاح الحزب”، وهو سلاح إيرانيّ، لكنّ حاضنته لبنانيّة ومَن يحمله لبنانيّون، وهذا ما يعقّد مسألة تسليمه أو نزعه.

رفض إسرائيل الخطّة يعقّد الأمور

تنذر آخر التطوّرات بتعقيد الموقف بعد آخر زيارة للموفدَين الأميركيَّين توم بارّاك ومورغان أورتاغوس، وخطاب الرئيس نبيه برّي باسم الثنائي الشيعيّ. إذ إنّ إسرائيل رفضت خطّة بارّاك قبل تقديم الجيش اللبناني خطّته لـ”حصريّة السلاح”. وبرز تركيز برّي على رفض نزع السلاح تحت ذريعتَي استمرار الاحتلال الإسرائيلي وممارسة “التنمّر” ضدّ الطائفة الشيعية من قبل بعض الأطراف.

يبدو أنّ لبنان يمكن أن يبقى ساحة اشتباك إيراني – إسرائيلي (وأميركي) بعد زيارة أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي لاريجاني وإصراره على الاحتفاظ بورقة “الحزب”. في المقابل سعت واشنطن إلى تقديم بدائل للبنان من خلال “إشراك دول الخليج، وفتح آفاق جديدة من خلال منطقة اقتصاديّة عازلة خالية من السكّان”. وهو ما يعني أنّ واشنطن تعمل لوقف نهائيّ ودائم للعمليّات العسكرية بين لبنان وإسرائيل، ويقتضي ذلك نزع سلاح “الحزب” الذي سوف يفقد عمليّاً دوره.

إزاء مأزق أولويّة انسحاب إسرائيل أم نزع السلاح، يبدو أنّ المسار الداخلي مغلق بشكل أو بآخر، وأنّ احتمال عودة العمليّات العسكريّة الإسرائيلية وتوسّعها ليس مستبعداً مع ما تحمله من عواقب كبيرة.

البعد الإقليميّ عراقيّ الطّابع

من جهة أخرى، تأكّد البعد الإقليمي إثر بيان لكتائب “حزب الله” في العراق رفضت فيه المساعي لنزع سلاح المقاومة، ودعت إلى “تعزيز الترسانة الدفاعية لمواجهة “الذرائع الواهية” التي تُطرح في لبنان والعراق”.

يعكس التزامن والتطابق بين موقفَي القوى الموالية لإيران في بلاد الأرز وبلاد الرافدين تنسيقاً متعمّداً قبل استحقاقات متقاربة. والأدهى أنّه يجري ربط السلاح بالهويّة الطائفية في خطاب الطرفين، مع إشارات مبطّنة إلى الاحتقان الحاصل على الساحة السوريّة وتداعياته.

لا بدّ من الإشارة إلى توقّف البرلمان العراقي في أوّل آب دون القراءة الثالثة لقانون “الحشد الشعبي” قبيل عرضه للتصويت عليه، خاصّة أنّ القانون المذكور يمنح “الحشد” صلاحيّات واسعة وموارد كبيرة واستقلاليّة قرار نسبيّاً عن المؤسّسات الأمنيّة الأخرى. وهذا ما أثار مخاوف الولايات المتّحدة من أن يؤدّي إقراره إلى تمكين مجموعات مسلّحة تستظلّ بـ”الحشد” وموالية لإيران. وهو ما اعترض عليه الجانب البريطاني الذي ركّز على عدم الحاجة إلى “الحشد” بعد انتهاء المعارك مع “تنظيم الدولة”، وأنّ فيه فصائل مهدِّدة لأمن العراق ومصالحه.

200 ألف في “الحشد”

تتكلّم الأرقام بنفسها. إذ تضمّ قوّات “الحشد” 200 ألف منتسب ينتمون إلى عشرة فصائل، منها ما لا يزال يرتبط مباشرة بإيران في إطار “محور المقاومة”. ولـ”الحشد” حسابات مستقلّة تخضع لمراجعة ديوان الرقابة الماليّة الاتّحادية، وله شركة “المهندس للمقاولات” لتنفيذ مشاريع إنشائية وهندسيّة في السوق. ويعتبر ذلك مثال الهياكل الموازية التي تهدّد سيادة الدولة داخليّاً وخارجيّاً.

كما في لبنان كذلك في العراق، يصعب التوصّل إلى إنهاء دور “الحشد” على الرغم من جدّية رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني وصرامته تجاه “انفلات الميليشيات”.

هكذا لا تبدو الصورة ورديّة من لبنان إلى العراق وتبيّن صعوبات “استعادة الدولة” في ظلّ إصرار إيران على مشروعها الإقليمي واستخدام أذرعها في الدفاع عن برنامجها النووي ونظامها من جهة، وتغوُّل إسرائيل في عهد نتنياهو من جهة أخرى. أمّا في سوريا فيبدو الوضع ضبابيّاً نظراً لعقبات الترتيبات الأمنيّة بين سوريا وإسرائيل، ولتزايد حظوظ سيناريو الاشتباك بين أنقرة وتل أبيب على الساحة السوريّة.

كان من اللافت أواخر آب تصريح القائد العامّ لقوّات سوريا الديمقراطية (“قسد” ذات القيادة الكرديّة) الجنرال مظلوم عبدي بأنّ “سوريا لن تعود إلى ما قبل 2011، والحلّ هو نظام ديمقراطي لامركزيّ”.

لا يعدّ الأمر نقاشاً في شكل الدولة الإداري أو تنظيمها، بل صراع بين مخاطر التفكّك واستمرارية الوضع القائم على علّاته.

استعصاء الحلول

يشبه الوضع الحالي في سوريا مرحلة مفصليّة من تاريخ المشرق في أواخر ثلاثينيّات القرن الماضي، حينما اعتبر غابرييل بيو المفوّض السامي الفرنسي في سوريا ولبنان آنذاك أنّ “المسألة السوريّة غير قابلة للحلّ وفق منطق ديكارت العقلاني”. والآن يبرز من جديد نوع من الاستعصاء في لبنان والعراق، واستمرار التناحر الداخلي والإقليمي في سوريا، وذلك بعد قرن ونيّف على إبرام اتّفاق سايكس- بيكو.

من الصعب أن تعود سوريا تماماً إلى ما كانت عليه قبل آذار 2011، لكن يستحيل التسرّع والخلط في الاستنتاج بين تكوُّن مناطق نفوذ مؤقّتة نتيجة مسارات التفكّك والاهتراء، وبين تركيب دوليات أو دول جديدة بشكل قانونيّ وقابل للحياة من حيث الموارد الاقتصاديّة والإمكانيّة السياسيّة.

ضمن المخاض المتواصل فصولاً، ليس من المسلّم به أن يسفر المسار القائم عن تقسيم المقسّم وفق سايكس – بيكو، بل ربّما يجري التوافق على أنظمة فدراليّة أكثر اتّساعاً، تسقط معها حدود الكيانات الحالية وتُعتمد المناطقيّة والجهويّة معايير للتشكيل، بالإضافة إلى معايير تستند إلى حيّز من التجانس الديني والإثني بين المكوّنات المختلفة.

من خلال قرن الفشل الاستراتيجيّ العربي، أي القرن العشرين، ومع البدايات العنيفة في الربع الأوّل من هذا القرن، يبدو المشرق العربي مسرحاً أو ملعباً للنفوذ وليس فاعلاً في تقرير مصيره، مع إمكان تغيير ذلك إذا نجح الانتقال السوري بعد سقوط منظومة الأسد وفي حال إعادة تركيب الإقليم وإذا كانت هناك إعادة نظر في الكيانات إن في داخلها أو برمّتها. لن يتوقّف الأمر على الحدود وحضور المكوّنات، أي لن تكون الجغرافيا السياسية والبشرية لوحدها في الحسبان، بل سيكون للموارد وخارطتها وتوزّعها نصيب في رسم الخرائط العتيدة.