حسابات دقيقة بين المرونة والإنتحار

حسابات دقيقة بين المرونة والإنتحار

الكاتب: جوني منيّر | المصدر: الجمهورية
4 أيلول 2025

الإنطباع السائد لدى مختلف الأوساط اللبنانية كما لدى العواصم المتابعة للحقبة الجديدة التي دخلها لبنان منذ مطلع السنة الجارية، أنّ الأيام المقبلة تبدو حاسمة ودقيقة على مستوى المسار الجديد الذي يسلكه لبنان. ولا حاجة للشرح في أنّ السبب يعود لملف سلاح «حزب الله»، والجلسة الحكومية المخصّصة لإقرار خطة الجيش اللبناني، في إطار تطبيق قرارات الحكومة المتخذة في جلستي الخامس والسابع من شهر آب الماضي.

وخلال الأيام الماضية رفع «حزب الله» صوته للتحذير من مغبة إدارة الجلسة المقبلة لمجلس الوزراء على طريقة جلستي الخامس والسابع من آب الماضي. أي أنّ تجاوز رأي وزراء «الثنائي الشيعي» عبر الذهاب إلى اعتماد التصويت وليس التفاهم، ستترتب عنه نتائج مختلفة عمّا آلت إليه الأمور في جلستي آب. وتمّ تسريب سيناريوهات عدة في الأوساط الإعلامية الحليفة للثنائي، تتراوح ما بين التلويح بالخروج نهائياً من الحكومة، وتحريك الأرض، وأيضاً العودة إلى منطقة جنوب الليطاني، وصولاً إلى التحذير من عودة الحرب الأهلية في حال تطبيق خطة الجيش بالقوة. وأُرفقت هذه التحذيرات بحملة استهداف طاولت رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام. لكن اللافت كان الغمز الضمني من قناة رئيس مجلس النواب نبيه بري، على رغم من تبنّي خطابه في ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر.

في المقابل، سعى أركان السلطة إلى تدوير الزوايا ولكن مع التشديد على أن لا عودة إلى الوراء، وأنّ القرار المُتخذ سيُطبّق، وهو ما جاهر به سلام الذي تعمّد الإجتماع بقائد الجيش كإشارة واضحة. إلّا أنّ الإتصالات الجانبية بقيت ناشطة وبوتيرة مرتفعة لإبتداع المخرج المناسب. ومن هنا تمّ حلّ موضوع مشاركة وزراء الثنائي من خلال إدراج بنود إضافية في جدول أعمال الجلسة، بحيث لا يكون ملف درس خطة الجيش هو البند الوحيد. وفي ذلك مخرج شكلي يؤدي إلى التحايل على ما اصطلح على تسميته في المراحل السابقة بالميثاقية. وكذلك أبدى الثنائي الشيعي استعداده للنقاش في الخطة التي ستقدّمها قيادة الجيش وإبداء ملاحظاته عليها. لكن وفي حال طُرح هذا البند على التصويت سينسحب وزراء الثنائي من الجلسة.

ووفق ما تقدّم يمكن الخروج باستنتاجات سريعة وفق الآتي:

ـ أولاً، وعلى رغم من حدّة التخاطب السياسي والإعلامي، إلّا أنّ سياق الأمور يُظهر أنّ السقف العام لا يسمح بالإنزلاق من مستوى التلويح بالقوة إلى مستوى استخدام القوة وتنفيذ التهديدات. فالظروف الداخلية كما الإقليمية والدولية لا تسمح بذلك. وأي خطأ بالحسابات والتقديرات سيؤدي إلى الإنتحار، خصوصاً أنّ المنطقة تمرّ بمرحلة تحوّلات كبرى.

– ثانياً، ما من شك أنّ الظروف والوقائع والمعطيات تفرض على الرئيس بري وقيادة «حزب الله» التنسيق إلى أقصى حد ممكن، ولو أنّ هنالك تبايناً في وجهات النظر حول السلوك الواجب اتباعه لضمان مصالح الطائفة الشيعية. وبدا ذلك واضحاً مع كلمة بري الذي طرح الحوار فوراً تحت سقف الدستور، فيما كان الأمين العام لـ«حزب الله» الشيخ نعيم قاسم قد طرح الشروع بالحوار حول الإستراتيجية الدفاعية، ولكن بعد الإنسحاب الإسرائيلي وإطلاق الأسرى ووقف الإعتداءات الإسرائيلية اليومية. لكن وفي كلا الحالتين، ثمة إقرار ضمني بأنّ ملف السلاح بات على الطاولة، فالظروف الداخلية والإقليمية تغيّرت، ولكن ثمة تفاهمات وأثماناً لا بدّ من النقاش فيها، وهذه الأثمان لا تزال مبهمة أو على الأقل غير معلنة.

ـ ثالثاً، هنالك من يستنتج بأنّ الفريق الشيعي يريد برنامجاً زمنياً غير محدد بتواريخ، أو على الأقل جعل الإطار الزمني فضفاضاً، على أمل أن يصبح الحوار الموعود متقارباً مع اقتراب الإستحقاق النيابي المنتظر، والذي سيشكّل محطة أساسية في التركيبة الجديدة. والمقصود هنا، أن يصبح الحوار يطاول حكماً دستور «الطائف» القائم، وهو ما سيؤدي إلى تأجيل هذا الإستحقاق لسنة إضافية، يتمّ خلالها إدخال «الأثمان» السياسية المطلوبة إلى صلب الدستور.

طبعاً لم يتبن أحد في وضوح كل ما سبق، بل بقي النقاش المعلن محصوراً في إطار العناوين التقليدية والكلاسيكية للنزاع القائم مع إسرائيل.

ولكن وعند الضفة الدولية، وتحديداً الأميركية، والتي تتابع من كثب المستجدات اللبنانية، فإنّ واشنطن التي أظهرت في وضوح اهتمامها بالملف اللبناني، أبدت في الوقت عينه عدم «زحزحتها» عن قرار تنفيذ الحكومة لقرار حصر السلاح بيدها. وعدا الوفد الفضفاض الذي زار بيروت وطريقة تنقله المعبّرة، فإنّ الإشارة الأميركية الثانية جاءت مع الإعلان مسبقاً عن زيارة مورغان أورتاغوس لبيروت الأحد المقبل، ولكن هذه المرّة برفقة القائد الجديد لـ»سنتكوم» براد كروبر. ففي العادة فإنّ زيارات قادة «سنتكوم» لبيروت لا يُعلن عنها إلّا بعد حصولها، وهو ما يعني أنّ في هذا الإعلان المسبق وقبل انعقاد جلسة مجلس الوزراء إشارة ذات مغزى. صحيح أنّ التفسير المعلن للزيارة يتعلق باللجنة العسكرية المكلّفة بتطبيق القرار الدولي 1701 وآلية «الميكانيزم»، إضافة إلى الإطلاع على حاجة الجيش للقيام بمهماته، لكن ثمة تفسيرات أخرى تطاول التوقيت الذي تمّ انتقاؤه، خصوصاً أنّ كروبر سيكون برفقة أورتاغوس. وهو ما دفع البعض إلى وضع الزيارة في إطار الدعم التنفيذي للجيش اللبناني في أي خطوة سيتخذها.

ففي الأروقة الديبلوماسية كلام كثير حول عدم حصول تبدّل جذري حقيقي وكامل للأوضاع على الأرض، في ظل الإفتقاد لإنتاج أدوات ووسائل ضغط فعّالة تدفع في هذا الإتجاه. وتؤكّد الأوساط الديبلوماسية أنّ لا عودة عن قرار إخراج النفوذ الإيراني من منطقة الساحل الشرقي للبحر المتوسط. وتضيف، أنّ العقوبات الفردية أو حتى التي طاولت الشبكات المالية لم تؤد الى النتيجة المرجوة، في وقت تبدو الركائز الإقتصادية الضعيفة للدولة اللبنانية وكأنّها تضع لبنان على شفير انهيار قريب. وبالتالي فإنّ هذه الأوساط تعتقد أنّ لا بدّ من مضاعفة الضغط، والإنطلاق إلى خطوات تنفيذية بالتوازي مع التطورات في المنطقة، وعدم إفساح المجال أمام استهلاك الوقت والغرق في التفاصيل، والغوص في مشاريع خلق معادلات دستورية جديدة تعارضها معظم دول المنطقة. وتعطي الأوساط الديبلوماسية ما يحصل في العراق كمثل على ذلك. فلقد تمّ ترحيل التصويت على مشروع قانون «الحشد الشعبي» إلى ما بعد الإنتخابات النيابية، بعدما سحبت الحكومة هذا المشروع. مع العلم أنّ ذلك حصل بموافقة أحزاب وكتل تحالف الإطار الشيعي الحاكم في العراق، والذي يضمّ كل الأحزاب الشيعية المشاركة في الحكومة والحليفة لإيران. وقيل إنّ أسباب الموافقة تعود للموقف الأميركي الحازم والجدّي، وهو ما دفع طهران التي تستعد لاستئناف مفاوضاتها الصعبة مع واشنطن، إلى التعاطي بمرونة مع الإعتراض الأميركي. ما جعل البعض يعتقد أنّ البحث في صيغة دستورية جديدة للبنان سيُترك للمجلس النيابي المقبل. أما قرار حصر السلاح بيد الدولة فيجب أن يتمّ تطبيقه في المرحلة الحالية، وبمعزل عن النقاش الدستوري لاحقاً.

وتلفت الأوساط عينها إلى التطورات المتلاحقة في المنطقة، كمثل مجاهرة عضو مجلس الرئاسة في حزب «الإتحاد الديموقراطي الكردي» في سوريا صالح مسلم، بأنّ حزبه لن يقبل بالعودة إلى نظام مركزي بالكامل في سوريا، وأنّه في حال رُفض ذلك فسيطالب بالإستقلال، أي الإنفصال. وكان الدروز قد أعلنوا موقفاً مشابهاً. وأضاف مسلم في مقابلة مع صحيفة «كردستان نيوز»، أنّ اللامركزية يمكن أن تتجسّد بأشكال مختلفة مثل الحكم الذاتي أو الإدارة الإقليمية أو حتى الفيدرالية. وبالتالي فإنّ لبنان الذي سيتأثر مباشرة بالتطورات التي ستحصل في الجوار، لا بدّ أن يبحث في مشاكله الدستورية في هدوء، ولكن بعد انتخاب مجلس نيابي جديد وليس من خلال المجلس الحالي.

و«حزب الله» يدرك أنّه يمسك بورقة قوية بيده، وهي عدم وجود منافس جدّي على الساحة الشيعية في وجه تحالفه مع حركة «أمل» وسط ضعف في البدائل. فالأطراف المعارضة له فشلت في ترجمة حضورها على المستوى الشعبي. بدليل أنّ خسارته للحرب التي جرت والنتائج المأسوية التي نتجت منها لم تنجح القوى المعارضة له في ترجمتهما ضغوطاً فعلية على سلاحه، لا بل على العكس، فإنّ الحملات غير المدروسة والغرائزية في معظم الأحيان أدّت إلى نتائج عكسية. وفي المقابل، من خلال تعبئة الساحة الشيعية إلى الحدّ الأقصى، إلى درجة أنّ الشريحة التي كانت تُصنّف كمستقلة أو علمانية ذابت تحت عبء حملات غوغائية وغير مدروسة، وتستعجل «اقتناص الأرباح»، وأدّت إلى تعزيز المخاوف «الوجودية» لدى مختلف شرائح الشارع الشيعي، ودفعه إلى الإصطفاف خلف «السلاح» القادر وحده على الحماية.

لكن في النتيجة، فإنّ العنوان العريض في المنطقة لا يسمح بترف التصعيد أو الإندفاع في مغامرات غير محسوبة. ولفت ما ظهر في الإعلام حول انفجار مخزن للسلاح والذخيرة كان لـ«حزب الله» في منطقة القصر، ما أدّى إلى مقتل عدد من العناصر التابعة للجيش السوري. وهو ما قرأت فيه بعض الجهات المراقبة بداية تحضير أو تلويح لاستعادة التوتر والتصعيد عند الحدود اللبنانية -السورية.

لا شك أنّ الأيام المقبلة حاسمة ودقيقة، لكن الظروف لا تسمح بترجمة التهويل الإعلامي إلى تصعيد ميداني. وأقرب الحلول تبقى في تدوير الزوايا. وقد يكون مكمن الخطر الحقيقي هو بارتفاع مخاطر عودة الإغتيالات، بهدف نسف المعادلة التي قامت على مستوى السلطة، ونقطة الإرتكاز هنا رئاسة الجمهورية.