
هواجس الخراب: نزع السلاح أقل كلفة من بقائه
يُروى أنّ رجلاً كان يقف على حافة سطحٍ لا حماية له، في بناء شاهق الارتفاع. ولشدة خوفه من السقوط في الهاوية، أخذ يتراجع خلفياً عن الحافة بخطوات سريعة، ومن دون تركيز… فسقط في الهاوية التي كانت وراءه. هذه الرواية تنطبق تماماً على الدولة اللبنانية التي تخاف اليوم حال الفوضى التي يمكن أن تسببها مصارحة «حزب الله» ومواجهته في موضوع سلاحه، لكنها تنسى أنّها بذلك تُعرّض البلد لكوارث أكبر بكثير.
يجدر التفكير عميقاً في التقرير الذي نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» أخيراً عن موقف واشنطن من مسألة نزع السلاح. فهو يطرح سيناريو قد يبدو صادماً، لكنه واقعي جداً. فبعد حرب دامت أحد عشر شهراً بين إسرائيل و»حزب الله»، وبعد تلقّي إيران ضربة موجعة في حرب الاثني عشر يوماً، وسقوط نظام بشار الأسد في كانون الأول الماضي، لا تستطيع الحكومة اللبنانية أن تتصرف وكأنّ شيئاً لم يكن، بل عليها التنبّه إلى أنّ البلد وصل اليوم إلى مفترق مصيري، ويستدعي قراءة دقيقة ورؤيوية لكل الوقائع والتوقعات.
يؤكّد التقرير ما هو مؤكّد أساساً: إدارة دونالد ترامب تريد من الحكومة اللبنانية أن تعتمد أسلوب الإقناع مع «حزب الله» لنزع سلاحه، وإلّا فأسلوب المواجهة، تحت طائلة التهديد بالأسوأ أميركياً وإسرائيلياً. وفي الواقع، بدا توقيت نشر التقرير مدروساً عشية جلسة 5 أيلول، كدعوةٍ للحكومة إلى إعادة تقويم المخاطر. فالفكرة التي يطرحها التقرير جوهرها أنّ الخراب الناتج من عدم نزع السلاح سيكون أكبر وأخطر من أي فوضى قد تنجم عن مفاوضة «حزب الله» أو حتى التصادم معه، بهدف نزع هذا السلاح.
السياق السياسي الذي تُطرح فيه الفكرة هو أنّ موازين القوى في المنطقة قد تبدّلت جذرياً في العامين الأخيرين. فـ«الحزب» لم يعد تلك القوة الهائلة المدعومة بخط إمداد متماسك من إيران عبر العراق وسوريا. فسقوط نظام الأسد قطع عنه شريان الدعم العسكري وأضعف كثيراً موقعه الاستراتيجي. وفاقم هذا الضعف ما تعرّضت له طهران من ضربات أميركية وإسرائيلية، وما لحق بـ»الحزب» من خسائر خلال الحرب مع إسرائيل.
في الماضي، كان تهديد «الحزب» بنشر الفوضى الداخلية في حال المسّ بسلاحه ورقةً رابحةً يلوّح بها لتثبيت نفوذه، كما فعل في 7 أيار 2008. لكن هذه الورقة لم تعد فاعلة، لأنّ الفوضى التي يتوعّد بها ستصيبه هو هذه المرّة، كما ستصيب بيئته الحاضنة التي أنهكتها الحرب المدمّرة.
بات الجميع مقتنعاً بأنّ الخطر الذي يحدق بلبنان اليوم ليس مصدره التهديدات الخارجية فحسب، بل أيضاً حال الشلل الداخلي التي يفرضها وجود سلاح خارج سيطرة الدولة. وهذا السلاح هو السبب الرئيسي في توقف الدعم الدولي، وتجميد المشاريع الاقتصادية، وغياب أي أفق لإصلاح حقيقي. ولذلك، باتت الحكومة اللبنانية مضطرة، للمرّة الأولى، إلى اتخاذ القرار بتغيير الواقع. فالجراحة ربما تكون مؤلمة، لكنها السبيل الوحيد لإنقاذ المريض.
خيار الخوف والاستسلام للواقع يبدو سهلاً في الظاهر، لكن عواقبه كارثية. فواشنطن ستوقف دعمها للجيش اللبناني في هذه الحال، وستجمّد المساعدات الاقتصادية، وستمنح إسرائيل الضوء الأخضر لاستئناف الحرب. أي إنّ لبنان سيُترك لمصيره، يواجه دماراً شاملاً، فيما الدولة عاجزة عن حماية المواطنين والبلد. وهذا المسار سيقود حتماً إلى الخراب الأكبر: إنهيار الدولة كلياً، وتفكّك النسيج الاجتماعي، وتحوّل لبنان دولة فاشلة.
إنّ التهديد بالفوضى الذي يلوّح به «الحزب» لم يعد يوازي حجم الدمار الذي ينتظر لبنان في حال استمراره في المسار الحالي. وعلى الحكومة أن تتذكر أنّ أي فوضى داخلية يمكن احتواؤها وإدارتها إذا كانت الدولة موحّدة وإذا كان جيشها قوياً. ولكن، إذا كانت الدولة ضعيفة والجيش بلا دعم، فإنّ أي مواجهة، ولو محدودة، تتحول كارثةً وطنية.
يدرك «الحزب» جيداً أنّ بيئته الحاضنة قد وصلت إلى مرحلة الإعياء. فقد دفع الشيعة اللبنانيون، ومعهم الطوائف الأخرى، ثمناً باهظاً بسبب الحروب الإقليمية التي خاضها عبثاً وانتهت بهزائم: فلا إيران انتصرت، ولا الأسد صمد، ولا غزة نجت، ولا الحلفاء في اليمن ينتصرون، فيما الحليف الشيعي في العراق يخبّئ رأسه. ولا يجد «الحزب» اليوم إلا الدولة والطوائف الأخرى ليهوّل عليها ويراهن على خوفها. لكنه، بلا شك، يدرك أنّ سلاحه لم يعد يحميه كما فعل دائماً، بل بات عبئاً عليه.
ولذلك، يجد لبنان نفسه أمام مفترق طرق مصيري، ولا مكان فيه للتسويف. فإما أن تتحمّل الحكومة مسؤولياتها وتتخذ قراراً تاريخياً ببناء دولة حقيقية، فتواجه التحدّيات التي قد تترتب على ذلك بمساندة المجتمع الدولي، وإما أن تترك لبنان ليغرق في خراب أكبر وأكثر تدميراً من الفوضى التي يهدّد بها «الحزب».
الخيار الشجاع ليس سهلاً، لكنه أقل كلفة على المدى الطويل. وفي السياسة، كما في الحياة، غالباً ما يكون الخوف من المجهول أكبر من حقيقة المجهول نفسه. والخطر الأكبر ليس في قرار حصر السلاح، بل في الاستسلام له، وترك البلد يواجه مصيراً مجهولاً من الدمار والفشل.