استنزاف الحلفاء وتحدّي السلام… حرب نتنياهو التي لا تنتهي

استنزاف الحلفاء وتحدّي السلام… حرب نتنياهو التي لا تنتهي

الكاتب: ايليا ج. مغناير | المصدر: الراي الكويتية
7 أيلول 2025
– تآكل عميق في «القوة الناعمة» لإسرائيل بأكثر ساحاتها حيوية… واشنطن
– حملة نتنياهو ليست مصممة للنهاية بل للاستمرار

لم تواجه إسرائيل من قبل مثل هذه العزلة العالمية التي تعانيها اليوم، ولا مثل هذه الإدانة الواسعة. فلعقود، اعتمدت على تحالفات دولية قوية، لا سيما في واشنطن، حيث كان دعم الكونغرس ومجلس الشيوخ الأميركيين، راسخاً.

لكن بعد أكثر من 700 يوم من الحرب الشرسة في غزة – والتي تُوصف الآن وعلى نطاق واسع بـ «الإبادة الجماعية» – بدأ هذا الأساس يتداعى… أعضاء بارزون في مجلسي الشيوخ والنواب، ينتقدون تل أبيب علانية، ما يعكس تآكلاً عميقاً في «القوة الناعمة» لإسرائيل في أكثر ساحاتها حيوية.

مع ذلك، ورغم انهيار الشرعية الدولية، يواصل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو سياسته… هدفه الجديد هو مدينة غزة، حيث يسعى إلى إجبار ما يقارب من مليون فلسطيني للتوجه جنوباً إلى ما تسميه إسرائيل «ممراً إنسانياً».

عملياً، يعمل هذا الممر كمنطقة لمخيم – معتقل مفتوح: مكان يُجبر سكان غزة على التجمع فيه، ولكن لا يمكنهم الخروج منه إلا بمغادرة القطاع تماماً وإلى الأبد.

الهدف واضح: تطهير عرقي قسري لغزة من خلال التهجير والإرهاق.

ويتوقع نتنياهو إجبار أكثر من مليوني شخص على التوجه نحو رفح، على الحدود المصرية. ويمثل هذا النقل الجماعي للمدنيين تحت القصف عملاً غير مسبوق في التاريخ الحديث.

وردت مصر، التي لطالما كانت شريكاً في الاستقرار الإقليمي، بقوة، إذ اتهم وزير خارجيتها بدر عبدالعاطي، إسرائيل بارتكاب «إبادة جماعية» في غزة «تتجاوز الخيال»، محذراً من أن القاهرة لن تتسامح مع أي محاولة لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء.

في الوقت نفسه، اشتكت القاهرة من أن ستة آلاف شاحنة مساعدات مازالت عالقة على جانبها من معبر رفح، الذي أغلقته إسرائيل التي تحتل المدينة الآن وتسيطر على المنافذ كافة.

وقد فسدت محتويات العديد من الشاحنات المحملة بالغذاء والإمدادات الحيوية بعد أشهر من الانتظار.

بالنسبة إلى القاهرة، إسرائيل تستخدم الجوع كسلاح، وتُطبّق إستراتيجية تُحوّل المدنيين في غزة إلى أوراق مساومة أمام خيارين قاسيين: البقاء والموت، أو المغادرة وعدم العودة.

ردّ نتنياهو، بجرأة ووقاحة مُعتادة، مُتهماً مصر بعدم فتح معبر رفح. هذا انقلابٌ ساخرٌ للواقع. إسرائيل نفسها هي التي تُغلق المعابر، تقتل الفلسطينيين، وتدمّر منازلهم، وتدفعهم جنوباً إلى مناطق غير آمنة تُصنّفها قوات الاحتلال «حمراء» (خطر الموت).

وما يُسمّى بالمناطق الإنسانية تحت القصف، مُجرّدة من الموارد، وخالية من الأمان. فإسرائيل تحضر مُخيّمات لمعتقل مفتوح، لا لملاذات آمنة.

بإلقاء اللوم على الآخرين، يسعى نتنياهو إلى صرف النظر عن مسؤولية الكارثة التي أحدثتها سياساته. لكن هذا التكتيك يُخاطر بأكثر من مجرد خطاب: فهو يُقوّض أسس معاهدة كامب ديفيد للسلام لعام 1979.

الرهائن… الأبراج الشاهقة ورسائل الانتقام

يحمل توقيت التصعيد الإسرائيلي الأخير دلالةً واضحة. فبعد وقت قصير من نشر «حماس» مقطع فيديو يُظهر جنديان من الرهائن في شوارع مدينة غزة، أطلق الاحتلال معركة تدمير الأبراج السكنية. يمكن تفسير ذلك على أنه رسالة انتقامية. فهي تُغيّر الرواية المحلية: فبدلاً من التركيز على فشل نتنياهو في تأمين إطلاق الرهائن، تتجه أضواء الإعلام إلى «الزخم الهجومي».

تُصوّر عمليات هدم الأبراج الشاهقة كعروض استعراضية – يتعامل نتنياهو معها تقريباً كعروض فولكلورية للتدمير. إنهم يبثون رسالة هيمنة للفلسطينيين والعالم مفادها بأن إسرائيل قادرة على محو رموز الحياة المدنية متى شاءت.

في هذه الحالة، مُنح السكان 15 دقيقة فقط للفرار. حتى مئات الخيام الموقتة التي نُصبت بالقرب سُوّيت بالأرض في الانفجار، ما سيدفع العائلات نحو ما يُسمى بالممر الإنساني في رفح.

ومع ذلك، لا يستطيع الكثير من الفلسطينيين تحمل تكاليف السفر جنوباً، ويرفض الكثيرون دخول ما يعتبرونه معسكر اعتقال مكشوفاً. خيارهم الوحيد المتبقي هو التوجه غرباً نحو الساحل – وهو طريق يائس وخطير، تُحاصره القوات المتقدمة من الشمال والجنوب والشرق، ويتعرض في كل خطوة لنيران مميتة لا هوادة فيها.

منطق التدمير

تُقدم إسرائيل مبرراً مألوفاً لعمليات الهدم هذه : يُفترض أن «حماس» تستخدم المباني الشاهقة كمراكز قيادة أو مواقع لإطلاق النار. لكن في هذه المرحلة من الحرب، تتدهور قدرة «حماس» بشدة.

مقاتلوها مُشتتون، يعتمدون على أسلحة بدائية الصنع. في مواجهتهم يقف جيش إسرائيلي بمقاتلات «إف-16» و«إف-35» وطائرات من دون طيار، وتكنولوجية مُتقدمة للمراقبة، والفرق المدرعة والقنابل الموجهة الدقيقة.

في ظل هذه الظروف، من غير المعقول تصوير المباني الشاهقة كأهداف عسكرية ضرورية. فهدم الأبراج لا يتعلق بالدفاع بقدر ما يتعلق بالسياسة والضغط والتهجير.

مع ذلك، هناك اعتبارات تكتيكية:

– منع نقاط المراقبة: يمكن أن تُستخدم المباني الشاهقة كمواقع للقناصة أو أبراج مراقبة. هدمها يقلل من المخاطر التي تتعرض لها القوات المتقدمة.

– التطهير الاستباقي: تدمير المباني الشاهقة يقلل من فرصة الكمائن في الشوارع الضيقة حيث تكون المدرعات عرضة للخطر. كان هذا درساً من جنين عام 2002 وغزة عام 2014.

– التأثير النفسي: هدم أفق المدينة يعزز الخوف والتشتت والذعر بين المدنيين، ويرسل إشارات للمدافعين بأن المقاومة ستُقابل بقوة ساحقة.

وكما قال وزير الدفاع سابقاً يوآف غالانت، مردداً صدى دونالد ترامب، فإن مثل هذه الهجمات «تفتح أبواب الجحيم».

لكن هذه العناصر التكتيكية لا تنفصل عن الحسابات السياسية. لا تقتصر حملة الجيش الإسرائيلي المكثفة على التحضير للعمليات البرية فحسب، بل تهدف أيضاً إلى إعادة تشكيل ساحة المعركة، ودفع المدنيين إلى ممرات محددة، وإدامة حربٍ تُؤجل نهايتها باستمرار.

لماذا الآن… ولماذا بهذا الحجم؟

وراء المنطق العسكري تكمن الضرورة السياسية. فحرب نتنياهو في غزة لا تتعلق بالحل، بل بالبقاء. فإنهاء الصراع قبل الأوان سيُعرّضه للانتخابات والمساءلة عن الإخفاقات الكارثية التي وقعت في أكتوبر 2023، بالإضافة إلى عجزه عن استعادة الرهائن.

على مدى عامين تقريباً، مدّد أمد الحرب، مُعيداً النظر في مطالبه ومُغيّراً ميزان القوى.

هناك دافعان رئيسيان يُحرّكان التصعيد الحالي:

– تجنّب تحقيق نصر سريع. إذا انتهت الحرب من دون أن تُملي إسرائيل «شروطاً جديدة»، يُخاطر نتنياهو بالانهيار السياسي… الصراع الذي لا نهاية له، يحميه من المحاسبة.

– ترسيخ السلطة. بإبقاء إسرائيل في حال طوارئ دائمة، يُجمّد نتنياهو السياسة الداخلية، ويُؤجّل التخطيط لما بعد الحرب، ويضمن بقاءه.

وهكذا، بينما تُصوّر إسرائيل هدم الأبراج الشاهقة على أنه حماية للقوات، فإن وظيفتها الأوسع هي فرض التهجير، وإعادة تشكيل مدينة غزة، والأهم من ذلك كله، إبقاء الحرب مستمرة بشروط نتنياهو. لا تهدف هذه الضربات إلى إنهاء الحرب، بل إلى ضمان عدم انتهائها.

جيش بلا رادع

تكمن وراء هذه الحملة حقيقة أعمق. فجيش لا يُبدي أي اهتمام يُذكر بالأخلاق والقيم، ولا يُواجه أي مساءلة، يُمكنه تبرير أفعاله بأي ذريعة. بادعائها أن مقاتلي «حماس» يتربصون في الأبراج، تُخفي إسرائيل العقاب الجماعي تحت ستار الضرورة العسكرية. لكن اختلال توازن القوى صارخ: جيش حديث يتمتع بتفوق جوي وطائرات من دون طيار ودروع في مواجهة مقاومة مُشتتة بأسلحة بدائية.

النتيجة ليست معركة بين أنداد، بل حملة دمار. أبراج غزة ستتساقط الواحد تلو الآخر، كل منها علامة واضحة على التهجير، وكل منها تذكير بأن الحرب مُصممة لتكريس نفسها لفترة طويلة.

العزلة ومحاسبة النفس

تعيش إسرائيل عزلة أشد من أي وقت مضى في تاريخها. فقد انهار زعمها بالشرعية الأخلاقية تحت وطأة دمار غزة وانتهت «سردية الهولوكوست» التي خدمت إسرائيل لعقود. وحتى في واشنطن، التي كانت يوماً ما معقلها الأكثر موثوقية، ينفد صبرها بينما يواجه المشرعون واقع حرب لا تنتهي ومعاناة مدنية ممنهجة.

ومع ذلك، يواصل نتنياهو سياسته. فأهدافه الحربية لا تتعلق بـ«حماس» بقدر ما تتعلق بالبقاء السياسي، ولا تتعلق بخطف الرهائن بقدر ما تتعلق بتجاهل المساءلة، ولا تتعلق بالأمن بقدر ما تتعلق بإعادة تشكيل التركيبة السكانية في غزة.

باتهامه مصر، ومنع شاحنات المساعدات، وهدم الأبراج، وإجبار الفلسطينيين على اللجوء إلى الممرات الجنوبية، فإنه لا يخاطر فقط عبر ارتكابه الإبادة الجماعية، بل بتسببه بانهيار السلام الإقليمي أيضاً.

الدرس واضح: حملة إسرائيل ليست مصممة للنهاية، بل مصممة للاستمرار. وفي هذا الاستمرار يكمن بقاء نتنياهو الموقت – وعزلة إسرائيل المتزايدة.