
“الطيران الشراعي” بعد الحوادث: ترويج مستمر…والوزارة تهدد
“في خطوات جاية”. بهذه العبارة أنهت وزيرة الشباب والرياضة نورا بايراقداريان اتصالها مع “المدن”، بعد أن أصدرت التعميم الرقم 5/1/2025، مهدّدة بوقف التراخيص وإلغاء الأنشطة المخالفة في رياضة الطيران الشراعي.
بدا كلام الوزيرة كأنه محاولة للانتقال من موقع المتفرّج إلى موقع المؤثر. لكن خلف الوعيد، هناك واقع يصرّ على الاستمرار كما هو: سماء مشرّعة، ونوادٍ لا تهدأ عن الترويج. لبنان يمتلك جبالاً شاهقة وطقساً “مثالياً” لهذه الرياضة، لكن المثالية الطبيعية شيء، والواقع التنظيمي شيء آخر تماماً.
“جاهز تموت أو تعلق بالشجرة؟”
وفي الوقت الذي يتراكم فيه الغبار فوق تقارير عن حوادث، بعضها قاتل، تتدفّق في “إنستغرام” و”تيك توك” و”فايسبوك” مقاطع ملوّنة: ابتسامة سائح قبل الانطلاق، لقطة واسعة فوق الغيوم، سيلفي مع موسيقى صاخبة. إعلان بعد إعلان، يتجاهل أصحابها أربعة حوادث وقعت في المنطقة، خلال ستة أشهر. الترويج يسبق الذاكرة، والضحايا يُختصرون في تعليقات ساخرة: “جاهز تموت أو تعلق بالشجرة؟”.
تحليق باتجاه الهاوية
الواقع أن معايير الرقابة الرسمية تبقى حبراً على ورق؛ إذ لا تتعدّى العقوبات “تجميد التراخيص”، قبل العودة إلى العمل. السماء مشرّعة للجميع: هواة يتعلمون على عجل، محترفون يبيعون خبراتهم، مغامرون يبحثون عن جرعة أدرينالين، وسياح ينجذبون إلى الصور الدعائية.
منذ أواخر الثمانينيات، ومع تأسيس النوادي في التسعينيات، دخلت رياضة الطيران الشراعي إلى لبنان عبر ناديَين صغيرين فقط. شيئاً فشيئاً، ومع موجة السياحة “المغامراتية”، تضاعف العدد ليصل اليوم إلى حوالي 12 نادياً. لكن ما كان ينقص دائماً هو البنية التحتية، مثل منصات إطلاق آمنة، ولوائح واضحة بأسماء الطيارين، وأجهزة إنقاذ فعالة، وحتى أبسط معايير السلامة تحت رقابة فعلية.
بعض هذه النوادي تأسّس على أيدي طيارين محترفين، في حين تحوّل بعضها الآخر إلى “بزنس” موسمي يستثمر في جبال لبنان بوصفها وجهة لإغراء السياح العرب والأجانب: دقائق في الجو، صورة سيلفي، فيديو دعائي و”أهلاً بكم في لبنان”.
أيُّ شخص يمتلك مظلة ومنحدراً يقدّم نفسه كـ”كابتن”
اللبنانيون لم ينسوا بعد. فمنذ أيار/ مايو الماضي، وقعت أربع حوادث متتالية في غضون أشهر قليلة. البداية في ساحل علما، حين هوى شاب عشريني من المنية ليفارق الحياة بعد سقوط مظلته في خليج جونيه. وبعده بأسابيع، سقط هاوٍ آخر على صخور شاطئ البحصة في جبيل. ثم وقع حادث فاجأ الوسط الرياضي: وفاة عمر سنجر، المتمرّس وصاحب الخبرة الطويلة، الذي انتهت مغامرته بجثة عالقة قرب شاطئ جونيه. لم يمرّ أسبوعان على هذه الصدمة، حتى جاء المشهد الرابع: لبناني وعراقي يتدلّيان من شجرة صنوبر على ارتفاع أربعة أمتار، وسط دهشة المارة وعدسات الهواتف.
هكذا، تتحوّل المأساة إلى خلفية دعائية، ويغدو الموت استثناءً يتكرّر. الطيران الشراعي لم يعد رياضة نخبوية كما كان في التسعينيات؛ بل صار تجارة: أي شخص يمتلك مظلة ومنحدراً يقدّم نفسه كـ”كابتن”، ويصطحب السياح في جولة قصيرة. صورة، فيديو، وبعض الدعاية، لكن خلف الصور البراقة لا معايير للسلامة. الأرواح معلّقة بخيط، ومصيرها مرهون بهبّة هواء أو خلل بسيط.
الوزيرة: “أكثر من الإجراءات التنظيمية في البيان والتعميمات، لا يمكننا أن نفعل”
وزارة الشباب والرياضة التي اعتادت الاكتفاء ببيانات مقتضبة بعد كل حادثة، حاولت هذه المرة أن تبدو أكثر جدية. حددت الوزيرة بايراقداريان أن الطيران المنفرد والمزدوج هما فقط المسموح بهما، عبر الجمعيات المرخّصة، وفرضت الالتزام بـ16 معياراً للسلامة، وعلّقت تراخيص أربع جمعيات لم تقدّم بيانات طيّاريها. ومع ذلك، تعترف الوزيرة نفسها: “أكثر من الإجراءات التنظيمية في البيان والتعميمات، لا يمكننا أن نفعل، وهناك خطوات مقبلة”.
في النهاية، يبقى السؤال معلقاً: مَن يحمي هذه النوادي من المساءلة؟ مَن يمنحها القدرة على الترويج بعد كل مأساة؟ وهل هناك غطاء سياسي يجعل من هذه “السياحة المحمية” تجارة لا تمسّ، مهما كثرت أعداد الجثث والجرحى؟