
بين 5 آب و 5 أيلول: انتهت “المقاومة”
على الرغم من أن ما يُسمى “المقاومة” انتهت على أثر هزيمتها العسكرية أمام إسرائيل، وسقوط نظام الأسد الذي أقفل الجغرافيا السورية أمام مرجعيتها الإيرانية، وبالتالي سقطت ذريعتها نهائيًا في مواجهة إسرائيل، كون الأخيرة لن تسمح لها بإعادة تكوين نفسها، ولم يعد باستطاعتها لا تصنيع السلاح ولا تلقّيه من إيران، إلا أن صدور قرار عن مجلس الوزراء كان ضروريًا لرفع الغطاء عنها، وإعادة العمل بالدستور الذي جرى الانقلاب عليه، لجهة اعتبار سلاحها غير شرعي.
فلا يكفي ان تنتهي وظيفتها الإيرانية مع إسرائيل، ولا أن تُقفَل الحدود السورية أمامها، على الرغم من أهمية هذَين المعطيين الاستراتيجيين، لأنها كانت ستواصل الادعاء بأن مهمتها الإيرانية تحظى بغطاء رسمي لبناني. ومن هنا تأتي أهمية إلغاء هذه المهمة تطبيقًا للدستور اللبناني.
وتكفي متابعة ردود فعل مسؤولي “حزب الله” على قرارات الحكومة في 5 و 7 لتبيان مدى امتعاضهم وانزعاجهم وشعورهم بالخسارة التي مني بها “الحزب”. ومن هنا صبّت دعواته على تراجع الحكومة عن قراراتها، لأنها أفقدته للمرة الأولى منذ العام 1990 “الشرعية” التي كان يتظلل بفيئها.
ويواجه “حزب الله” للمرة الأولى في تاريخه ثلاثة تطورات استراتيجية مستجدة:
التطوّر الأول: إنهاء إسرائيل قواعد الاشتباك معه وإصرارها على إنهاء جناحه العسكري.
التطوّر الثاني: انسداد طريق تسليحه وتموينه وتدريبه ومدّه بالمساعدة من إيران عبر الحاجز السوري.
التطوّر الثالث: تحرُّر الدولة اللبنانية من قبضته، بعدما كانت أداة بتصرفه، كما كانت من قبل أداة بيد نظام الأسد، وبالتالي بين 5 آب و 5 أيلول انكسر قيد 35 عامًا من خطف الدولة.
وقد أفضت هذه التطورات المتلاحقة إلى محاصرته جغرافيًا من جهة، وسلطويًا من جهة أخرى، وأدّت إلى فقدانه قرار الحرب مع إسرائيل، وفقدانه القدرة على الحركة العسكرية في الداخل، أي التنقُّل بسلاحه. فيما قبل قرار الحكومة كان لا يزال يحظى بحرية الحركة والاستثناءات المعروفة، وهنا بالذات تكمن أهمية القرار الحكومي.
ومن جلسة 5 آب مرورًا بجلسة 7 آب وصولًا إلى جلسة 5 أيلول، خسر “حزب الله” ثلاث جولات متتالية، فلم ينجح بتعطيل أي جلسة منها على الرغم من تهديده وتهويله وخروجه وحليفه الرئيس نبيه بري منها. وهذا دليل عملي على فقدانه القدرة على التأثير على رئيسَي الجمهورية والحكومة ومجلس الوزراء، ودليل أيضًا على أن السلطة مصمِّمة على ممارسة دورها بمعزل عن موقفه وردود فعله.
ولأن “الحزب” فشل في تعطيل جلسات الحكومة، وفي دفعها إلى التراجع عن قراراتها، وفي سحب خطة الجيش ومنع إقرارها، ولأنه عاجز عن إسقاط الحكومة في الشارع وفي مجلس النواب، ولأنه غير قادر على استخدام سلاحه على غرار 7 أيار 2008، لجأ إلى محاولة التخفيف من خسارته بالادعاء أن إقرار خطة الجيش تمّ من دون وضع مهلة زمنية. أي انه قرّر اعتماد قاعدة “شو ما صار انتصار”. علمًا ان قرار 5 آب كان حدّد المهلة في 31 كانون الأول 2025، وقرار 5 أيلول طلب من الجيش تقارير شهرية عن تقدمه في تنفيذ قرار 5 آب، وهذه التقارير تعني أن الجيش لن يقف مكتوف الأيدي، وأن قرارات الحكومة لم تولد ميتة.
وعلاوة على الخطوة الأولى التي حققها الجيش قبل إقرار الخطة، والمتمثلة في منع خروج تظاهرات محازبيه إلى مناطق أخرى وحصرها داخل البيئة التي يسيطر عليها، فإن الخطة التي بدأ الجيش تنفيذها فور انتهاء جلسة الحكومة تقوم على الانتشار في لبنان كله، ومنع أي حمل أو أي نقل للسلاح، وإقامة حواجز طيارة، في رسالة واضحة لـ “الحزب” بان حركته العسكرية داخل لبنان أصبحت محظورة، وأن التعامل معه من الآن فصاعدًا لن يختلف عن طريقة التعامل مع غيره، فالاستثناء الذي كان يحظى به سقط، وحركته باتت تحت المراقبة العسكرية والأمنية.
والمشكلة الأساسية مع سلاح “حزب الله” ليست في المخازن المطمورة تحت سابع أرض والتي سيأكلها الصدأ، إنما في مفاعيل هذا السلاح على الحياة السياسية: من استجلاب الحروب، إلى استخدامه في الداخل، وتوظيفه معنويًا، وتعطيل عمل الدولة. وقد أزالت قرارات الحكومة هذه المفاعيل، ووضعت السلاح تحت المجهر، وعزلت مناطقه عن بعضها البعض.
وكان الأمل الوحيد لـ “الحزب” أن يحافظ على متنفسه الداخلي بعد انسداد منافذه مع إسرائيل وسوريا، لكن مع إلغاء هذا المتنفّس لم يبق أمامه سوى المواقف والخطابات والعنتريات التي لا تطعم خبزًا ولا تُبقي سلاحًا. والمسار الذي بدأ هو مسار تصاعدي لن يتوقّف قبل إنهاء وضعيته العسكرية نهائيًا.
ولأن “ليس كل ما يلمع ذهبًا”، فإنه بمواقفه يحاول أن يصوِّر أن وضعيته ما زالت على حالها، لكن نفسية الشريحة الأكبر من بيئته باتت مدمرة لإدراكها أن دوره العسكري انتهى، ومكابرته تسيء إلى هذه البيئة قبل غيرها. وفي نهاية المطاف، تبقى المسألة مسألة ظروف، والظرف الذي ولدت فيه هذه الذراع وترعرعت انتهى في المنطقة ولبنان. وعدم إقراره بهذا الواقع لا يقدِّم ولا يؤخِّر، بل إن الإنكار لا يُصرف سياسيًا، وسيواصل تعريضه للاستهداف الإسرائيلي والموت والتدمير والتهجير…