باريس تحاول إعادة التموضع من البوّابة الفلسطينية

باريس تحاول إعادة التموضع من البوّابة الفلسطينية

الكاتب: اورور كرم | المصدر: نداء الوطن
10 أيلول 2025

عتلي اليوم القضية الفلسطينية الطليعة بين القضايا التي تلقى اهتمامًا عالميًا، متخطية بأشواط قضية أوكرانيا وحرب روسيا عليها. فالكلّ مهتمّ بتفاصيل الحرب على غزة وضرورة إيقافها وتأمين المساعدات للشعب الغزاويّ، ومن خلال ذلك العمل على استراتيجية “اليوم التالي” أو ما بات متعارفًا عليه في ما بين الإنتلجنسيا العالمية بالـ Day After.

وانطلاقًا مِمّا سبق، وعلى جانب التطوّرات الميدانية في قطاع غزة، دخلت فرنسا على خط القضية الفلسطينية من الباب العريض، إذ تعمل حاليًا على تحضير “استعراض سياسي” أواخر الشهر الحالي وتحديدًا خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث تسعى باريس إلى حشد دعم واسع للقضية الفلسطينية يتجسّد بحصد الاعترافات بدولة فلسطين وإعادة إحياء حلّ الدولتين.

في الواقع، إنها ليست المرّة الأولى التي تنخرط فيها فرنسا في مثل هذا الدور، إذ دأبت باريس منذ الحرب العالمية الثانية على لعب أدوار بارزة في السياسة الخارجية. فقد عملت في مراحل مختلفة على طرح مبادرات دبلوماسية أو المساهمة في رعاية مفاوضات، ساعية إلى تثبيت موقعها كقوّة وسيطة ومؤثرة في مسار النزاعات الإقليمية والدولية، فكانت لها أدوار بارزة في محطات أساسية، وفي كلّ مرة كانت باريس تحاول أن توازن بين التزاماتها الأوروبّية وبين رغبتها في الحفاظ على نفوذ مستقلّ يميّزها من واشنطن.

لكن من يراقب نتائج كلّ محاولاتها ومبادراتها، يلاحظ جيّدًا أنّ قوّتها كانت غالبًا نابعة من تقاربها من الولايات المتحدة الأميركية، حيث إنه كلّما كانت آراؤها متناغمة مع آراء واشنطن زاد تأثيرها على المشهدية السياسية والعكس صحيح. فعلى سبيل المثال، فإن معارضة فرنسا بشكل قاطع الحرب الأميركية – البريطانية على العراق في عام 2003 لم تفلح في منعها أو إحداث أي فرق فيها، كما أن التباين مع الأميركي في مقاربة ملف النووي الإيراني لم يؤدِ إلى إنجاح المسار التفاوضي الفرنسي، بل على العكس، فقد استفاقت إيران في 13 حزيران على حرب إسرائيلية – أميركية أعادت نتائجها رسم مسار المنطقة بأكملها. هذا من دون الحديث عمّا نتج يوم قرّرت فرنسا التفرّد بالمبادرة والتسرّع في التدخل في الملف اللبناني، فبدل أن يسهم تدخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الشخصي على أثر تفجير مرفأ بيروت في حلحلة الأزمة، فقد نتجت عن تدخله إعادة تبييض صورة القوى المعرقلة والمنخرطة في قضايا الفساد، ما أدّى إلى كبح جموح “ثورة” 17 تشرين وترسيخ مبدأ التوقيع الثالث والثلث المعطّل في يد الممانعة.

أمّا اليوم، فتدخل فرنسا من الباب العريض على واحد من أكثر الملفات تعقيدًا، أي ملف القضية الفلسطينية، محور السياسات العالمية منذ منتصف القرن الماضي. ورغم أن هذا الحراك الفرنسي يحمل بعدًا إيجابيًا كونه يعيد تسليط الضوء على القضية ويفتح باب النقاش الجدّي حول حلّ الدولتين، إلّا أن القاصي والداني يدرك أن القرار الفعلي يبقى رهن الموقف الأميركي، الذي لا يزال يُعتبر العامل الحاسم في أي مسار سياسي متعلّق بالصراع. فالولايات المتحدة تعارض اليوم أي خطوة من شأنها الاعتراف من جانب واحد بدولة فلسطينية، إذ إن ذلك من شأنه أن يضيف عراقيل قانونية وسياسية كبيرة أمام الحلّ النهائي للصراع ويضغط على إسرائيل بالاتجاه السلبي، بحسب الأميركيين.

هذا الاجتماع الفرنسي – السعودي قد أجّل سابقًا في حزيران بعدما شنت إسرائيل ضربات على إيران، واستمرّت الحرب بين إسرائيل وإيران 12 يومًا. حينها كانت إدارة ترامب قد انتقدت المؤتمر، وحضّت الحلفاء على عدم الحضور، وحذّرت من أن الدول التي تحضر قد تواجه عواقب من واشنطن. لكن فرنسا التي تقحم نفسها في الدفع نحو الاعتراف بدولة فلسطين، في خطوة تضرب عرض الحائط بالموقف الأميركي المتحفظ، هي نفسها تعيش أزمة داخلية عميقة تبلورت أخيرًا بسقوط حكومة رئيس الوزراء فرنسوا بايرو، وسط مخاوف من أن تعود البلاد إلى أزمة سياسية أصعب بكثير من تلك التي سادت نهاية العام الماضي بعد سقوط حكومة ميشال بارنييه، التي لم تعمّر سوى ثلاثة أشهر تقريبًا، وقبلها حكومة غابرييل أتال، التي استمرّت ثمانية أشهر فقط.

من هنا، فإن حالة عدم الاستقرار السياسي ستترك انعكاسات سلبية على الاقتصاد الفرنسي، مهدّدة قدرة الدولة على ضبط ديونها، مع احتمال أن يتعرّض تصنيفها الائتماني لمزيد من الانخفاض، في ظلّ اتساع الفجوة بين عوائد السندات، وهو ما يعكس ارتفاع علاوة المخاطر التي يطالب بها المستثمرون للاحتفاظ بالديون الفرنسية.

ففرنسا اليوم التي تواجه ضغوطًا اقتصادية واجتماعية في الداخل، يبدو أنها تحاول إعادة تثبيت موقعها على الساحة الدولية في ظلّ تراجع وزنها أمام الهيمنة الأميركية. هذا التناقض بين طموحها الدبلوماسي وأزماتها الواقعية يطرح تساؤلات حول مدى قدرتها على تحويل هذه المبادرة إلى إنجاز فعلي.