إسرائيل وسلاحُ الفتنة: شرذمةُ سوريا تُهدِّد تركيا كيانياً

إسرائيل وسلاحُ الفتنة: شرذمةُ سوريا تُهدِّد تركيا كيانياً

المصدر: المدن
11 أيلول 2025

عندما صرّح السفير الأميركي في تركيا والمبعوث إلى سوريا توم باراك بإمكان سقوط سايكس- بيكو، استنتج كثيرون من مقاصده أن نفوذ تركيا سيتّسع على مستوى المنطقة ككل، انطلاقاً من روسيا، وانطلاقاً مما كانت قد حققته تركيا على مدى السنوات الفائتة من اتساع للدور والنفوذ، واستناداً الى قوة العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية، خصوصاً مع إدارة الرئيس دونالد ترامب. ترجماتٌ سياسية عديدة نُسجت لكلام باراك، بينها اعتبار أن واشنطن، وفي مواجهتها مع الصين وروسيا وإيران، لا بد لها من تعزيز العلاقة مع القوى “السنّية” في المنطقة، وخصوصاً تركيا، السعودية وسوريا والدول العربية الأخرى. 

ولكن، في المقابل، كان هناك موقف إسرائيلي آخر، يختلف عن كل هذه التقديرات والمقاربات، ويستند إلى مبدأ إضعاف كل دول المنطقة، ولو اقتضى ذلك تجاوز كل الخطوط الحمر، بالاعتداءات والاستهدافات أو التدخل في الشؤون الداخلية للدول. ويتمّ ذلك انطلاقاً من هدف استراتيجي إسرائيلي، يُختصر بعدم السماح لأي دولة ذات جغرافيا واسعة أو قوة بشرية كبيرة أو قدرة اقتصادية متقدمة، بأن تكون مستقرة وصاحبة دور واسع على مستوى المنطقة. فإسرائيل تعيش عقدةً مع هذه الدول، لجهة الحجم والمساحة والكتلة السكانية والقدرات الإقتصادية. 

إلى جانب الحرب المفتوحة التي تشنها إسرائيل على المنطقة، وفي موازاة مشروعها الواضح بالتجزير بهدف التهجير، لا سيما في غزة والضفة الغربية، هي تواصل السعي إلى إخضاع لبنان لابتزاز عسكري وسياسي دائم، كما هو الحال بالنسبة إلى سوريا التي تعمل تل أبيب يومياً لإضعافها، على الرغم من المفاوضات التي تجريها معها. وتنفذ إسرائيل عملياتها في سياق تحقيق مشروعها، وفي خلفية رأسها “الكلمة المفتاح” المتعلقة بسقوط سايكس- بيكو، وهي لا تريد لتركيا كما لا تريد لإيران أن تكون دولة ذات نفوذ متسع في المنطقة. من هنا، إن المشروع الذي يعمل بنيامين نتنياهو على رسم ملامحه يتصل بمحاولة إسرائيلية لرسم الخرائط في الشرق الأوسط بالقوة العسكرية. 

في موازاة الحرب الساحقة التي تخوضها إسرائيل في فلسطين، فإن وجهتها الثانية هي سوريا والتركيز عليها، بعد إضعاف حزب الله في لبنان. ومَردّ ذلك هو ما تمثله سوريا من ثقل وموقع استراتيجي في المنطقة، وباعتبارها الدولة المترامية الأطراف والحدود أو المنافذ على دول عديدة. ولا تزال إسرائيل تفكر في أي طريقة يمكنها أن تبقي الخلل السوري قائماً، ولو أدى ذلك إلى إدخال سوريا في حرب أهلية، كما تعمل على تحفيز مطالبة المكونات بكيانات ذاتية، فتصبح سوريا كياناً متشظياً له انعكاساته على دول المنطقة ككل. وعليه، فإن إسرائيل ستبقى تحاول زرع الشقاق وبذور الفتنة في سوريا بين المكوّنات السورية المختلفة، للعودة إلى ما قبل 100 سنة، عندما كان المشروع يقضي بجعل سوريا كيانات متناحرة. وتسعى تل أبيب إلى الاستثمار في أي خلاف أو صراع سوري داخلي، أو هي ستعمل على إنتاجه إن تمكنت، سواء في السويداء مع الدروز، أو في الساحل مع العلويين أو في شرق سوريا مع الأكراد. 

تلاعُبُ إسرائيل بالمكوّنات السورية والسعي إلى شرذمتها وتغذية الصراعات في ما بينها، مع الدفع في اتجاه المطالبة بكيانات ذاتية ومستقلة، ليس هدفه فقط ضرب سوريا ووحدتها ومركزيتها وموقعها والقضاء على أي دور لها يمكن أن يتبلور لاحقاً، وليس هدفه فقط تصغير الكيان السوري أو إضعافه وخلخلته من الداخل، بل هو في أحد أشكاله موجَّه ضد تركيا، إذ أن إسرائيل تخوض حرباً في مواجهة قوى إقليمية أو محاور. فبعدما حققت تقدماً على خط مواجهة الدول العربية ككل والقضاء على أي مشروع عربي على مدى عقود، واجهت المحور الإيراني وأضعفته عسكرياً وعملت على إفقاده نفوذه الذي توسَّع ليشمل أربع عواصم عربية، اليوم تجد تل أبيب نفسها في مواجهة تركيا كقوة إقليمي أو كمشروع في المنطقة يمكنه أن يشكل تنافساً للمشروع الإسرائيلي. 

من هنا، فإن محاولات إسرائيل للتدخل في توجهات وأنشطة المكونات السورية، في السويداء، أو في شمال شرق سوريا مع الأكراد، أو في منطقة الساحل وجبال العلويين، لا تقود فقط إلى إضعاف مركزية الحكم في دمشق وإضعاف سوريا ككل، بل هدفها اللعب على وتر تهديد الأمن القومي التركي، من خلال هذه المكوّنات التي لديها وجودها في تركيا أيضاً، وخصوصاً الأكراد والعلويين. وبذلك، لا تكون إسرائيل في خضم مواجهة مع النفوذ التركي في سوريا فقط، بل إن ما تفعله هناك هو عنصر تهديد لتركيا من الداخل.